وعلى هذا فنقولُ: المرادُ بالإنذارِ الإنذارُ المباشِرُ، والإنذارُ المباشِرُ من النبيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ما كانَ إلا لِأُمِّ القرى ومَنْ حَوْلَهَا؛ ولهذا ما فُتِحَتِ الشامُ ولا العراقُ ولا مصرُ في عهدِ النبيِّ - صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسلَّمَ - وإنما كان الجزيرةَ فقط، وعليه فيكونُ المرادُ بقولِهِ:{لِتُنْذِرَ} الإنذارَ الذي تمَّ في حياتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فإنه لم يَشْمَلْ إلا أُمَّ القرى ومَنْ حَوْلَهَا.
وقولُهُ:{أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}، هل المرادُ بهذا إنذارُ المدينةِ نفسِها أو المرادُ الأهلُ؟
الجوابُ: الأهلُ لا شكَّ، ولا يُشْكِلُ هذا على أحدٍ، وهذا هو الذي جَعَلَ شيخَ الإسلامِ (١) رَحِمَهُ اللهُ يقولُ: "إنه لا مجازَ في القرآنِ ولا في غيرِهِ من اللغةِ العربيَّةِ؛ لأنَّه إذا كان اللفظُ دالًّا على معناه الخاصِّ فإنه لا يُعْتَبرُ مجازًا".
ونحن نقولُ هنا: ليس المرادُ أن الرسولَ يُنْذِرُ بيوتَ مكةَ وأسواقَها، وإنما المرادُ أن يُنْذِرَ أهلَها، بقيَ أن يقالَ: أين مفعولُ {لِتُنْذِرَ} الثاني؛ لأنَّ أَنْذَرَ تَنْصِبُ مفعوليْن، كما قال اللهُ تعالى:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى}[الليل: ١٤]، الكافُ مفعولٌ أولُ و {نَارًا} مفعولٌ ثانٍ؟
نقولُ: المفعولُ الثاني محذوفٌ، ويُقَدَّرُ بما يُنَاسِبُ، ممكنٌ أن نُقَدِّرَهُ بقولِهِ: يومَ الجمعِ. أي: لِتُنْذِرَ أُمَّ القرى ومَنْ حَوْلَهَا يومَ الجمْعِ. بدليلِ قولِهِ:{وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} فتجدُ الآنَ الآيةَ الكريمةَ الجملةَ الأولى حُذِفَ منها مفعولٌ، والثانيةُ حُذِفَ منها مفعولٌ، لكن الجملةَ الأولى حُذِفَ مفعولُها الثاني، والجملةُ الثانيةُ حُذِفَ مفعولُها الأولُ، وهذا من بلاغةِ القرآنِ.