الآخرة متى قَرُبَتْ من قلبه بَعُدَتْ عنه الدنيا، كلما قَرُبَ من هذه مرحلة بَعُد من هذه مرحلة. ولا سبيل إلى هذا إلا بدوام الذكر، والله المستعان.
الأربعون: أن الذكر يُنَبِّه القلب من نومه، ويُوقِظُه من سِنَته، والقلب إذا كان نائمًا فاتَتْهُ الأرباح والمتاجِر، وكان الغالبُ عليه الخسران، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نَوْمَتِه شَدَّ المِئْزر، وأحيا بقية عمره، واستدرك ما فاته، ولا تَحْصُلُ يقظته إلا بالذكر، فإن الغفلة نومٌ ثقيل.
الحادية والأربعون: أن الذكر شجرةٌ تُثْمِر المعارف والأحوال التي شمَّر إليها السالكون، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر، وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها، فالذكر يثمر المقامات كلَّها، مِنَ اليقظة إلى التوحيد، وهو أصل كل مقام، وقاعدته التي ينبني ذلك المقام عليها، كما يُبْنَى الحائط على أُسِّه، وكما يقوم السقف على حائطه، وذلك أن العبد إن لم يستيقظ لم يُمْكِنْه قطع منازل السير، ولا يستيقظ إلا بالذكر كما تقدم، فالغفلة نومُ القلب أو موتُه.
الثانية والأربعون: أن الذاكر قريب من مذكوره، ومذكورُه معه، وهذه المعية مَعِيَّةٌ خاصةٌ غيرُ مَعِيّةِ العلم والإحاطة العامة، فهي مَعِيَّةٌ بِالقُرْبِ والولاية والمحبة والنصرة والتوفيق، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨)﴾ [النحل: ١٢٨]، ﴿وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩)﴾ [البقرة: ٢٤٩]، ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)﴾ [العنكبوت: ٦٩]، ﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة: ٤٠].