وَأَمَّا جَانِبُ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّ دَيْنَهُ عَلَى عُرْضَةِ التَّوَى وَالتَّلَفِ لِمَا عَسَى أَنْ يُذْهِبَ الرَّاهِنُ مَالَهُ بِالتَّبْذِيرِ وَالسَّرَفِ، أَوْ يَقُومَ لَهُ غُرَمَاءُ يَسْتَوْفُونَ لَهُ، أَوْ يَجْحَدَ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ بَيِّنَةٌ، أَوْ يَمُوتَ مُفْلِسًا بِغَيْرِ كَفَالَةٍ مُتَعَيَّنَةٍ فَنَظَرَ الشَّارِعُ لِلْمُرْتَهِنِ فَشَرَعَ الرَّهْنَ لِيَصِلَ إلَى دَيْنِهِ بِآكَدِ الْأُمُورِ وَأَوْثَقِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى لَوْ لَمْ يُقِرَّ بِدَيْنِهِ كَانَ فَائِزًا بِمَا يُعَادِلُهُ مِنْ رَهْنِهِ.
قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (الرَّهْنُ يَنْعَقِدُ بِالْإِيجَابِ، وَالْقَبُولِ) الْإِيجَابُ رُكْنُ الرَّاهِنِ بِمُجَرَّدِهِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الرَّاهِنُ: رَهَنْتُكَ هَذَا الشَّيْءَ بِدَيْنِكَ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ، وَإِنَّمَا جُعِلَ الرُّكْنُ مُجَرَّدَ الْإِيجَابِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ لِمَا أَثْبَتَ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ الْيَدِ عَلَى الرَّهْنِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِإِزَاءِ ذَلِكَ شَيْئًا عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَكَانَ تَبَرُّعًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَمَا هَذَا سَبِيلُهُ لَا يَصِيرُ لَازِمًا إلَّا بِالتَّسْلِيمِ كَالْهِبَةِ فَكَانَ الرُّكْنُ مُجَرَّدَ الْإِيجَابِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ، وَالْحُكْمُ فِيهِمَا كَذَلِكَ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ، أَوْ لَا يَتَصَدَّقُ فَوَهَبَ، أَوْ تَصَدَّقَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَتَمْلِيكٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَ الرُّكْنُ فِي الْبَيْعِ الْإِيجَابَ، وَالْقَبُولَ وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ فَبَاعَ وَلَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِيجَابُ رُكْنًا؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ بِهِ يُوجَدُ، وَرُكْنُ الشَّيْءِ مَا يُوجَدُ بِهِ الشَّيْءُ، وَالْأَصْلُ فِي شَرْعِيَّةِ جَوَازِ الرَّهْنِ قَوْله تَعَالَى {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣] وَرُوِيَ أَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا وَرَهَنَهُ بِهِ دِرْعَهُ» قَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ زَيْدٍ «تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِوَسْقٍ مِنْ شَعِيرٍ» .
الرِّهَانُ جَمْعُ رَهْنٍ كَالْعِبَادِ، وَالْجِبَالِ، وَالْخِبَاثِ جَمْعِ عَبْدٍ وَجَبَلٍ وَخُبْثٍ، ثُمَّ إنَّ الْمَشَايِخَ اسْتَخْرَجُوا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحْكَامًا فَقَالُوا: فِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الرَّهْنِ فِي كُلِّ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ مُعَدًّا لِلطَّاعَةِ، أَوْ لَا فَإِنَّ دِرْعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ مُعَدًّا لِلْجِهَادِ فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى جَوَازِ رَهْنِ الْمُصْحَفِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَقَشِّفَةُ أَنَّ مَا يَكُونُ مُعَدًّا لِلطَّاعَةِ لَا يَجُوزُ رَهْنُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي صُورَةِ حَبْسِهِ عَنْ الطَّاعَةِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى جَوَازِ الرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ فَإِنَّ رَهْنَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ بِالْمَدِينَةِ فِي حَالِ إقَامَتِهِ بِهَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ إنَّ الرَّهْنَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي السَّفَرِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: ٢٨٣] وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْوُجُودِ، وَالْعَدَمِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الشَّرْطَ حَقِيقَةً بَلْ ذِكْرُ مَا يَعْتَادُهُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ فَإِنَّهُمْ فِي الْغَالِبِ يَمِيلُونَ إلَى الرَّهْنِ عِنْدَ تَعَذُّرِ إمْكَانِ التَّوَثُّقِ بِالْكِتَابِ، أَوْ الشُّهُودِ وَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ فِي السَّفَرِ، وَالْمُعَامَلَةُ الظَّاهِرَةُ - مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا بِالرَّهْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ - دَلِيلُ جَوَازِهِ بِكُلِّ حَالٍ.
قَوْلُهُ: (وَيَتِمُّ بِالْقَبْضِ) يَعْنِي قَبْضًا مُسْتَمِرًّا إلَى فِكَاكِهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي انْعِقَادِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي لُزُومِهِ كَنَفْيِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ شَرْطٌ فِي لُزُومِ الْبَيْعِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي انْعِقَادِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْعَقِدُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ فَكَذَا هُنَا الْقَبْضُ شَرْطُ اللُّزُومِ لَا شَرْطُ الْجَوَازِ فَإِنَّ الرَّهْنَ جَائِزٌ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ لَازِمًا بِالتَّسْلِيمِ كَالْهِبَةِ حَتَّى لَوْ مَاتَ الرَّاهِنُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمُرْتَهِنُ الرَّهْنَ لَمْ تُجْبَرْ وَرَثَةُ الرَّاهِنِ عَلَى الْإِقْبَاضِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِدَلِيلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ الِاسْتِحْقَاقُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ فَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ لَا يَكُونُ لَازِمًا.
وَفِي الذَّخِيرَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ إلَّا مَقْبُوضًا فَقَدْ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقَبْضَ شَرْطُ جَوَازِ الرَّهْنِ، ثُمَّ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ أَيْضًا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ: الرَّهْنُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ لَازِمٍ إنَّمَا يَصِيرُ لَازِمًا فِي حَقِّ الرَّاهِنِ بِالْقَبْضِ فَكَانَ الْقَبْضُ شَرْطَ اللُّزُومِ لَا شَرْطَ الْجَوَازِ كَمَا فِي الْهِبَةِ، ثُمَّ يُكْتَفَى فِي الْقَبْضِ بِالتَّخْلِيَةِ وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ رَفْعِ الْمَانِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ؛ لِأَنَّهُ قَبْضٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ فَأَشْبَهَ قَبْضَ الْمَبِيعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ إلَّا بِالنَّقْلِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ وَاسْتِدَامَةُ الْقَبْضِ وَاجِبَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ حَتَّى إنَّ عِنْدَهُ لِلرَّاهِنِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالرَّهْنِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ، أَوْ وَكِيلُهُ وَلَوْ أَنَّ الرَّاهِنَ، وَالْمُرْتَهِنَ تَرَاضَيَا عَلَى أَنْ يَكُون الرَّهْنُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ لَا يَصِحُّ وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ وَبَعْدَ التَّرَاضِي لَوْ أَرَادَ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْبِضَهُ لِيَحْبِسَهُ رَهْنًا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute