قَتَلُوا الْقَاتِلَ وَبَرِئَ الْغَاصِبُ، وَإِنْ شَاءُوا اتَّبَعُوا الْغَاصِبَ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَتَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْغَاصِبِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَلَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ هُوَ الَّذِي قَتَلَ رَجُلًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَرَدَّهُ إلَى أَبِيهِ فَضَمِنَ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُضْمَنُ بِالْيَدِ فَلَا يُضْمَنُ جِنَايَتُهُ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْغَاصِبُ الْجِنَايَةَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ أَوْ طَرَحَ نَفْسَهُ مِنْ دَابَّةٍ لَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ فَإِنْ أَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ ضَمِنَ الْغَاصِبُ، وَإِنْ فَتَحَ رَجُلٌ بَابَ قَفَصٍ فَطَارَ مِنْهُ طَائِرٌ لَمْ يَضْمَنْ إلَّا إذَا نَفَّرَهُ، وَكَذَا إذَا فَتَحَ بَابَ دَارٍ فَهَرَبَ مِنْهُ الْعَبْدُ أَوْ حَلَّ قَيْدَ الْعَبْدِ فَهَرَبَ لَا يَضْمَنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْنُونًا وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي دَابَّةٍ مَرْبُوطَةٍ فِي مَرْبِطٍ فَحَلَّهَا رَجُلٌ أَوْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ فَفَتَحَ الْبَابَ فَذَهَبَتْ الدَّابَّةُ قَالَ هُوَ ضَامِنٌ فَإِنْ حَلَّ رِبَاطَهَا رَجُلٌ وَفَتَحَ الْبَابَ آخَرُ فَالضَّمَانُ عَلَى فَاتِحِ الْبَابِ.
وَقَالَ فِي الْعَبْدِ إذَا حَلَّ قَيْدَهُ أَوْ فَتَحَ الْبَابَ عَلَيْهِ فَهَرَبَ لَا يَضْمَنُ؛ لِأَنَّ لَهُ اخْتِيَارًا فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجْنُونًا.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا ضَمَانَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ طَارَ الطَّائِرُ مِنْ فَوْرِهِ ضَمِنَ، وَإِنْ طَارَ بَعْدَ مُهْلَةٍ لَا يَضْمَنُ وَإِنْ حَلَّ رِبَاطَ الزِّقِّ فَإِنْ كَانَ السَّمْنُ الَّذِي فِيهِ ذَائِبًا ضَمِنَ، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَذَابَ بِالشَّمْسِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّهُ سَالَ بِفِعْلِ الشَّمْسِ لَا بِفِعْلِهِ قَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ إذَا اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا فَجَاءَ إلَيْهِ بِقِيمَتِهِ، فَقَالَ لَا آخُذُهَا وَلَا أَجْعَلُك فِي حِلٍّ يَرْفَعُ الْأَمْرَ إلَى الْحَاكِمِ حَتَّى يَجْبُرَهُ عَلَى الْقَبُولِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ حَقَّ الْمُسْتَهْلِكِ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ إلَى الْحَاكِمِ وَلَكِنْ وَضَعَهُ فِي حِجْرِ صَاحِبِهِ بَرِئَ، وَإِنْ وَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ لَا يَبْرَأُ بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ إذَا وَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهَا، وَكَذَلِكَ عَيْنُ الْمَغْصُوبِ يَبْرَأُ بِوَضْعِهِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ حَقِيقَةُ الْقَبْضِ لِتَحَقُّقِ الْمُعَاوَضَةِ وَفِي الْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ بِالتَّخْلِيَةِ لِعَدَمِ الْمُعَاوَضَةِ وَطَلَبَةُ الْعِلْمِ إذَا كَانُوا فِي مَجْلِسٍ وَمَعَهُمْ مَحَابِرُ فَكَتَبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مِنْ مِحْبَرَةِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَا بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِيهِ دَلَالَةً إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَرْضَى.
(مَسْأَلَةٌ) رَوَى عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ قَالَ سَمِعْت عَلِيَّ بْنَ عَاصِمٍ قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ دِرْهَمٍ لِرَجُلٍ وَدِرْهَمَيْنِ لِآخَرَ اخْتَلَطُوا فَضَاعَ دِرْهَمَانِ وَبَقِيَ دِرْهَمٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَيُّهَا هُوَ، فَقَالَ الدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَلَقِيت ابْنَ شُبْرُمَةَ فَسَأَلْته عَنْهَا، فَقَالَ أَسَأَلْت عَنْهَا أَحَدًا؟ قُلْت نَعَمْ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ، فَقَالَ إنَّهُ قَالَ لَك الدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا قُلْت نَعَمْ قَالَ أَخْطَأَ أَبُو حَنِيفَةَ؛ لِأَنَّا نَقُولُ دِرْهَمٌ مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ الضَّائِعَيْنِ لِصَاحِبِ الدِّرْهَمَيْنِ بِلَا شَكٍّ وَالدِّرْهَمُ الثَّانِي مِنْ الضَّائِعَيْنِ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ الثَّانِي مِنْ الدِّرْهَمَيْنِ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ الدِّرْهَمُ الْوَاحِدُ فَالدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَاسْتَحْسَنْت جَوَابَهُ جِدًّا وَعُدْت إلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَقُلْت لَهُ خُولِفْت فِي الْمَسْأَلَةِ، فَقَالَ أَلَقِيَك ابْنُ شُبْرُمَةَ، وَقَالَ لَك كَذَا، وَكَذَا وَذَكَرَ جَوَابَهُ بِعَيْنِهِ قُلْت نَعَمْ قَالَ إنَّ الثَّلَاثَةَ لَمَّا اخْتَلَطَتْ صَارَتْ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا بِحَيْثُ لَا تَتَمَيَّزُ فَلِصَاحِبِ الدِّرْهَمَيْنِ ثُلُثَا كُلِّ دِرْهَمٍ وَلِصَاحِبِ الدِّرْهَمِ ثُلُثُ كُلِّ دِرْهَمٍ فَأَيُّ دِرْهَمٍ ذَهَبَ ذَهَبَ بِحِصَّتِهِ فَالدِّرْهَمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ.
[كِتَابُ الْوَدِيعَةِ]
(كِتَابُ الْوَدِيعَةِ) هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ قَالَ الشَّاعِرُ
سَلْ أَمِيرِي مَا الَّذِي غَيَّرَهُ ... عَنْ وِصَالِي الْيَوْمَ حَتَّى وَدَّعَهُ
أَيْ تَرَكَهُ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْأَعْيَانِ مَعَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْحِفْظِ مَعَ بَقَائِهَا عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمَالِكِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْأَمَانَةِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ هِيَ الِاسْتِحْفَاظُ قَصْدًا وَالْأَمَانَةُ هِيَ الشَّيْءُ الَّذِي وَقَعَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ بَائِنٍ أَلْقَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا فِي حِجْرِهِ وَالْحُكْمُ فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ الضَّمَانِ إذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ وَفِي الْأَمَانَةِ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالْأَدَاءِ إلَى صَاحِبِهَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْوَدِيعَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ فَإِذَا هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْهَا)
؛ لِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَيْهَا
فَلَوْ كَانَتْ مَضْمُونَةً لَامْتَنَعَ النَّاسُ مِنْ قَبُولِهَا فَتَتَعَطَّلُ مَصَالِحُهُمْ.
قَوْلُهُ (وَلِلْمُودَعِ أَنْ يَحْفَظَهَا بِنَفْسِهِ وَبِمَنْ فِي عِيَالِهِ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحِفْظِ إلَّا بِهِمْ وَلِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute