إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ
أَيْ بِالْقُوَّةِ وَعَرَابَةُ اسْمُ رَجُلٍ مَعْدُودٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ عَقْدٍ قَوِيٍّ بِهِ عَزَمَ الْحَالِفُ عَلَى الْفِعْلِ أَوْ التَّرْكِ وَسُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهَا لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ تَتَقَوَّى بِهَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْأَيْمَانُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ يَمِينِ غَمُوسٍ وَيَمِينٍ مُنْعَقِدَةٍ وَيَمِينِ لَغْوٍ فَالْغَمُوسُ هِيَ الْحَلِفُ عَلَى أَمْرٍ مَاضٍ يَتَعَمَّدُ الْكَذِبَ فِيهِ) مِثْلُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ قَدْ فَعَلَهُ مَا فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ أَوْ عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ لَقَدْ فَعَلَهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْحَالِ أَيْضًا وَلَا يَخْتَصُّ بِالْمَاضِي مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ مَا لِهَذَا عَلَيَّ دَيْنٌ وَهُوَ كَاذِبٌ أَوْ يُدَّعَى عَلَيْهِ حَقٌّ فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيَّ مَعَ عِلْمِهِ بِاسْتِحْقَاقِهِ فَهَذِهِ كُلُّهَا يَمِينٌ الْغَمُوسِ لِأَنَّهُ يَقْطَعُ بِهَا حَقَّ الْمُسْلِمِ وَالتَّجَرِّي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَسُمِّيَتْ غَمُوسًا لِأَنَّهَا تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي النَّارِ قَوْلُهُ (فَهَذَا الْيَمِينُ يَأْثَمُ بِهَا صَاحِبُهَا) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ «مَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» قَوْلُهُ (وَلَا كَفَّارَةَ لَهَا إلَّا الِاسْتِغْفَارُ) يَعْنِي مَعَ التَّوْبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران: ٧٧] الْآيَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ وَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «ثَلَاثٌ مِنْ الْكَبَائِرِ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَالْفِرَارُ مِنْ الزَّحْفِ» وَلِأَنَّهَا كَبِيرَةٌ مِنْ الْكَبَائِرِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ فِي الْيَمِينِ الْمُنْعَقِدَةِ وَالْعَقْدُ مَا تُصَوِّرَ فِيهِ الْحِلُّ وَالْعَقْدُ وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْغَمُوسِ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَقَاءُ عَلَى عَقْدِهَا لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِحِلِّهَا وَهُوَ الْحِنْثُ يُقَارِنُهَا فَلَا تَنْعَقِدُ كَالْبَيْعِ الَّذِي يُقَارِنُهُ الْعِتْقُ وَالصَّلَاةُ الَّتِي يُقَارِنُهَا الْحَدَثُ وَصُورَةُ الْبَيْعِ الَّذِي يُقَارِنُهُ الْعِتْقُ أَنْ يُوَكِّلَ رَجُلًا بِبَيْعِ عَبْدِهِ وَيُوَكِّلَ آخَرَ بِعِتْقِهِ فَبَاعَ الْوَكِيلُ وَأَعْتَقَ الْآخَرُ وَخَرَجَ كِلَاهُمَا مَعًا فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ وَقَوْلُهُ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ وَذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ حَالَاتٍ النَّدَمِ وَالْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ
[الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ]
قَوْلُهُ (وَالْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ هِيَ الْحَلِفُ عَلَى الْأَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ أَنْ يَفْعَلَهُ أَوَّلًا يَفْعَلَهُ فَإِذَا حَنِثَ فِي ذَلِكَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ) ثُمَّ الْمُنْعَقِدُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ مُرْسَلٌ وَمُؤَقَّتٌ وَفَوْرٌ فَالْمُرْسَلُ هُوَ الْخَالِي عَنْ الْوَقْتِ فِي الْفِعْلِ وَنَفْيِهِ وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ إثْبَاتًا وَقَدْ يَكُونُ نَفْيًا فَالْإِثْبَاتُ وَاَللَّهِ لَأَضْرِبَنَّ زَيْدًا وَالنَّفْيُ لَا أَضْرِبُ زَيْدًا فَفِي الْأَوَّلِ مَادَامَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ لَا يَحْنَثُ وَإِنْ هَلَكَ أَحَدُهُمَا حَنِثَ وَفِي الثَّانِي لَا يَحْنَثُ أَبَدًا فَإِنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مَرَّةً وَاحِدَةً حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ ثَانِيًا وَالْمُؤَقَّتُ مِثْلُ وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ الْيَوْمَ وَفِيهِ مَاءٌ فَهَذَا لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَمْضِ الْيَوْمُ فَإِذَا مَضَى وَلَمْ يَفْعَلْ حَنِثَ وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ صَبَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَهُمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ عِنْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ مَا دَامَ الْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَيْنِ فِي الْوَقْتِ لَا يَحْنَثُ فَإِذَا فَاتَ الْوَقْتُ وَحْدَهُ وَالْحَالِفُ وَالْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ قَائِمَانِ حَنِثَ بِالْإِجْمَاعِ فَإِنْ مَاتَ الْحَالِفُ وَالْوَقْتُ لَا يَحْنَثُ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ فَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَبَقِيَ الْوَقْتُ وَالْحَالِفُ بَطَلَتْ الْيَمِينُ عِنْدَهُمَا فَلَا يَحْنَثُ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَحْنَثُ إذَا مَضَى الْيَوْمُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُمَا أَنَّ قِيَامَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ فَفَوَاتُهُ يَرْفَعُ الْيَمِينَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَإِذَا هُوَ لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَهُ يَحْنَثُ مِنْ سَاعَتِهِ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ بِلَا مَاءٍ فِيهِ حَنِثَ بِالِاتِّفَاقِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَأَمَّا يَمِين الْفَوْرِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِيَمِينِهِ سَبَبٌ فَدَلَالَةُ الْحَالِ تُوجِبُ قَصْرَ يَمِينِهِ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ وَذَلِكَ كُلُّ يَمِينٍ خَرَجَتْ جَوَابًا لِكَلَامٍ أَوْ بِنَاءً عَلَى أَمْرٍ فَتَتَقَيَّدُ بِهِ بِدَلَالَةِ الْحَالِ نَحْوُ أَنْ تَتَهَيَّأَ الْمَرْأَةُ لِلْخُرُوجِ فَقَالَ: إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَعَدَتْ سَاعَةً ثُمَّ خَرَجَتْ لَا تَطْلُقُ وَكَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فَقَالَ رَجُلٌ: إنْ ضَرَبْته فَعَبْدِي حُرٌّ فَمَكَثَ سَاعَةً ثُمَّ ضَرَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى فَوْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ شَرْطُ حِنْثِهِ فِي فَوْرِهِ.
وَكَذَا إذَا قَالَ لَهُ: تَغَدَّ مَعِي فَقَالَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute