تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَصَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَيَتَحَقَّقُ الرِّبَا كَمَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُكَاتَبِهِ. قَوْلُهُ:
(وَلَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ، وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ) هَذَا قَوْلُهُمَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ مَعْنًى مَحْذُورٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ مَحْذُورًا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَلَهُمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا دَخَلَ إلَيْهِمْ بِغَيْرِ أَمَانٍ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ مَالِ الْحَرْبِيِّ بِغَيْرِ طِيبَةِ نَفْسِهِ فَإِذَا أَخَذَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، وَإِذَا دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ فَأَمْوَالُهُمْ مُبَاحَةٌ فِي الْأَصْلِ إلَّا مَا حَظَرَهُ الْأَمَانُ وَقَدْ حَظَرَ عَلَيْهِ الْأَمَانُ أَنْ لَا يَأْخُذَ مَالَهُ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسِهِ وَإِذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ مَالَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ وَكَذَا إذَا دَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ بِأَمَانٍ فَبَاعَ مِنْ مُسْلِمٍ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا جَازَ الرِّبَا مَعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُمَا مُسْلِمَانِ فَلَا يَجُوزُ بَيْنَهُمَا الرِّبَا كَمَا لَوْ كَانَا فِي دَارِنَا وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ مَالٍ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا لَمْ يُهَاجِرْ إلَيْنَا بَاقٍ عَلَى حُكْمِ مَالِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَتْلَفَهُ مُتْلِفٌ لَمْ يَضْمَنْ، وَأَمَّا إذَا هَاجَرَ إلَيْنَا، ثُمَّ عَادَ إلَى دَارِهِمْ لَمْ يَجُزْ الرِّبَا مَعَهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَحْرَزَ مَالَهُ بِدَارِنَا فَصَارَ كَأَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ.
[بَابُ الِاسْتِبْرَاءِ]
هَذَا بَابٌ لَمْ يَذْكُرْهُ الشَّيْخُ وَهُوَ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فَنَقُولُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى وَجْهَيْنِ مُسْتَحَبٍّ وَوَاجِبٍ فَالْمُسْتَحَبُّ اسْتِبْرَاءُ الْبَائِعِ، وَالْوَاجِبُ اسْتِبْرَاءُ الْمُشْتَرِي أَمَّا اسْتِبْرَاءُ الْبَائِعِ فَنَقُولُ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ جَارِيَةٌ يَطَؤُهَا وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهَا عَنْ مِلْكِهِ وَيُمَلِّكَهَا غَيْرَهُ فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ بَعْدَ وَطْئِهِ حَتَّى يُعْلَمَ فَرَاغُ رَحِمِهَا مِنْ الْوَلَدِ وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يُزَوِّجَهَا وَهِيَ أَمَةٌ، أَوْ مُدَبَّرَةٌ، أَوْ أُمُّ وَلَدٍ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ بَعْدَ وَطْئِهِ فَإِنْ زَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِبْرَاءِ، أَوْ قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا بِلَا اسْتِبْرَاءٍ، وَأَمَّا اسْتِبْرَاءُ الْمُشْتَرِي فَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِهِ.
قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ «أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ» فَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ مَلَكَ جَارِيَةً أَنْ لَا يَقْرَبَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ سَوَاءٌ مَلَكَهَا بِالْبَيْعِ، أَوْ بِالْهِبَةِ، أَوْ بِالصَّدَقَةِ، أَوْ بِالْوَصِيَّةِ، أَوْ بِالْمِيرَاثِ، أَوْ بِالْخُلْعِ، أَوْ بِالْكِتَابَةِ، أَوْ دُفِعَتْ إلَيْهِ بِجِنَايَةٍ جَنَتْهَا وَسَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ الْمِلْكُ مِنْ امْرَأَةٍ، أَوْ مِنْ صَغِيرٍ بَاعَهَا عَلَيْهِ أَبُوهُ، أَوْ جَدُّهُ، أَوْ وَصِيُّهُ، أَوْ اشْتَرَاهَا مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَكَذَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا لَمْ تُوطَأْ قَطُّ فَهُوَ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ وَقَدْ حَصَلَ لَهُ فَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ مِمَّنْ تَحِيضُ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ اسْتَبْرَأَهَا بِشَهْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَبِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَا يَجْتَزِئُ بِالْحَيْضَةِ الَّتِي اسْتَبْرَأَهَا فِي أَثْنَائِهَا وَلَا بِالْحَيْضَةِ الَّتِي حَاضَتْهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ، أَوْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا بِالْوِلَادَةِ الْحَاصِلَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ اسْتِحْدَاثُ الْمِلْكِ، وَالْيَدِ، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ تَجْزِيهِ الْحَيْضَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي الشِّرَاءِ، وَالْمِيرَاثِ وَالْوَصِيَّةِ وَلَيْسَ لَهُ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَلَا يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ وَلَا يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ وَلَا يُعَانِقَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ وَالشَّيْءُ إذَا حَرُمَ حَرُمَ بِدَوَاعِيهِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُظَاهِرَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ وَطْئًا وَاسْتِمْتَاعًا وَلِأَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَذًى حَرُمَ الْوَطْءُ وَدَوَاعِيهِ كَالْعِدَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْحَيْضُ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ الْوَطْءَ لِأَجْلِ الْأَذَى وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْقُبْلَةِ وَاللَّمْسِ وَلَوْ مَلَكَ مِنْ الْجَارِيَةِ نِصْفَهَا وَحَاضَتْ، ثُمَّ مَلَكَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ لَا يَجْتَزِئُ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ أُخْرَى، وَإِذَا كَانَ الِاسْتِبْرَاءُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَوَضَعَتْ حَلَّ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا بِمَا سِوَى الْجِمَاعِ مَا دَامَتْ فِي النِّفَاسِ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَائِضِ، وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً شِرَاءً فَاسِدًا وَقَبَضَهَا لَمْ يَطَأْهَا، وَإِنْ حَاضَتْ فَإِنْ اشْتَرَاهَا بَعْدَ ذَلِكَ شِرَاءً صَحِيحًا وَقَدْ كَانَتْ حَاضَتْ مَعَهُ لَمْ يَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ فَإِنْ فَسَخَ الْقَاضِي الْبَيْعَ بَيْنَهُمَا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ وَرَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ الِاسْتِبْرَاءُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ يُمْلَكُ بِهِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ وَتَحْرِيمُ الْوَطْءِ عَلَى الْمُشْتَرِي لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عَادَتْ إلَى الْبَائِعِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِبْرَاءُ كَمَنْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى رَجُلٍ هِيَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ، ثُمَّ عَادَتْ إلَى الْبَائِعِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا كَذَا هَذَا وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً وَهِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ فَلَمْ تَحِضْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute