قِيلَ: إنَّمَا حُبِسَ تَعْزِيرًا لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا لِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ فَإِنْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ فَوُجِدُوا فُسَّاقًا وَهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَلَا حَدَّ عَلَى الرَّجُلِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ لَمْ تُقْبَلْ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونُوا صَادِقِينَ فَإِنْ بَانُوا عَبِيدًا أَوْ مَحْدُودِينَ فِي قَذْفٍ أَوْ عُمْيَانًا فَعَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ لِأَنَّ الْعُمْيَانَ لَا يَرَوْنَ مَا شَهِدُوا عَلَيْهِ فَتَحَقَّقْنَا كَذِبَهُمْ فَكَانُوا قَذَفَةً وَأَمَّا الْعَبِيدُ، وَالْمَحْدُودُونَ فَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فَكَانُوا قَذَفَةً فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ حَدُّ الْقَذْفِ وَقَوْلُهُ فِي السِّرِّ، وَالْعَلَانِيَةِ التَّزْكِيَةُ نَوْعَانِ فَالْعَلَانِيَةُ أَنْ يَجْمَعَ الْقَاضِي بَيْنَ الْمُعَدِّلِ، وَالشَّاهِدِ فَيَقُولُ الْمُعَدِّلُ هُوَ الَّذِي عَدَلْته، وَالسِّرُّ أَنْ يَبْعَثَ الْقَاضِي رَسُولًا إلَى الْمُزَكِّي وَيَكْتُبَ إلَيْهِ كِتَابًا فِيهِ أَسْمَاءُ الشُّهُودِ وَأَنْسَابُهُمْ حَتَّى يَعْرِفَهُمْ الْمُزَكِّي فَمَنْ عَرَفَهُ بِالْعَدَالَةِ كَتَبَ تَحْتَ اسْمِهِ عَدْلٌ جَائِزُ الشَّهَادَةِ وَمَنْ عَرَفَهُ بِالْفِسْقِ لَمْ يَكْتُب تَحْتَ اسْمِهِ شَيْئًا احْتِرَازًا عَنْ هَتْكِ السِّتْرِ أَوْ يَقُولَ اللَّهُ أَعْلَمُ إلَّا إذَا كَانَ عَدَّلَهُ غَيْرُهُ وَخَافَ إنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُصَرِّحُ بِذَلِكَ وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ بِعَدَالَةٍ وَلَا فِسْقٍ يَكْتُبُ تَحْتَ اسْمِهِ مَسْتُورٌ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَقْبَلُ فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ الْمَرْأَةَ، وَالْعَبْدَ، وَالْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ إذَا كَانُوا عُدُولًا وَلَا أَقْبَلُ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إلَّا مَنْ أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لِأَنَّ تَزْكِيَةَ السِّرِّ مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ، وَالْمُخْبَرُ بِهِ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ مَقْبُولٌ إذَا كَانُوا عُدُولًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقْبَلُ رِوَايَتُهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجِبُ الصَّوْمُ بِقَوْلِهِمْ رَأَيْنَا الْهِلَالَ وَتَزْكِيَةُ الْعَلَانِيَةِ نَظِيرُ الشَّهَادَةِ وَعَلَى هَذَا تَزْكِيَةُ الْوَالِدِ وَلَدَهُ فِي السِّرِّ جَائِزٌ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ الْإِخْبَارِ ذَكَرَهُ فِي النِّهَايَةِ وَعَزَاهُ إلَى الذَّخِيرَةِ. قَوْلُهُ: (وَالْإِقْرَارُ أَنْ يُقِرَّ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي أَرْبَعَةِ مَجَالِسَ مِنْ مَجَالِسِ الْمُقِرِّ كُلَّمَا أَقَرَّ رَدَّهُ الْقَاضِي) يَعْنِي أَنَّهُ لَا يُؤَاخِذُهُ بِإِقْرَارِهِ حَتَّى يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ كُلَّمَا أَقَرَّ رَدَّهُ حَتَّى يَتَوَارَى مِنْهُ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَزْجُرَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيُظْهِرَ لَهُ كَرَاهَةَ ذَلِكَ وَيَأْمُرَ بِتَنْحِيَتِهِ عَنْهُ فَإِنْ عَادَ ثَانِيًا فَعَلَ بِهِ كَذَلِكَ فَإِنْ عَادَ ثَالِثًا فَعَلَ بِهِ كَذَلِكَ فَإِنْ أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارٍ وَاحِدٍ وَإِنْ أَقَرَّ بِالزِّنَا ثُمَّ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ وَكَذَا فِي السَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ إلَّا أَنَّ فِي السَّرِقَةِ يَصِحُّ رُجُوعُهُ فِي حَقِّ الْقَطْعِ وَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْقَذْفِ، وَالْقِصَاصِ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ.
وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا وَهُوَ يُنْكِرُ ثُمَّ أَقَرَّ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ وَيُؤْخَذُ فِيهِ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا لَمْ يُقِرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لَا تَبْطُلُ الشَّهَادَةُ فَإِذَا أَقَرَّ أَرْبَعًا بَطَلَتْ إجْمَاعًا وَيُؤْخَذُ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ حَتَّى لَوْ رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَجَحَدَتْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يُحَدُّ لِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَيْهَا فَجَحَدَتْ فَحُدَّ الرَّجُلُ وَهُوَ مَحْمُولٌ» عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ حَدَّهُ حَدَّ الْقَذْفِ لِلْمَرْأَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ مَحِلِّهِ، وَالزِّنَا لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمَرْأَةِ وَإِنْكَارُهَا حُجَّةٌ لِنَفْيِ الْمَحَلِّيَّةِ فِي حَقِّهَا فَاقْتَضَى النَّفْيُ عَنْ الرَّجُلِ ضَرُورَةً فَعَارَضَ النَّفْيَ الْإِقْرَارُ فَسَقَطَ الْحَدُّ وَلِأَنَّا صَدَّقْنَاهَا حِينَ جَحَدَتْ وَحَكَمْنَا بِبُطْلَانِ قَوْلِهِ فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهَا وَأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ فَإِذَا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ زِنًا فِي حَقِّهَا كَانَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَقَرَّ بِالزِّنَا بِهَا غَائِبَةً فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُحَدَّ لِجَوَازِ أَنْ تَحْضُرَ فَتَجْحَدَ فَتَدَّعِي حَدَّ الْقَذْفِ أَوْ تَدَّعِي نِكَاحًا فَتَطْلُبَ الْمَهْرَ، وَفِي حَدِّهِ إبْطَالُ حَقِّهَا، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ يُحَدَّ لِحَدِيثِ مَاعِزٍ لِأَنَّهُ حُدَّ مَعَ غَيْبَةِ الْمَرْأَةِ فَإِنْ جَاءَتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَادَّعَتْ التَّزْوِيجَ وَطَلَبَتْ الْمَهْرَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَهْرٌ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ زِنًا، وَفِي إيجَابِ الْمَهْرِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَدِّ، وَالْمَهْرِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا، قَوْلُهُ: (فَإِذَا تَمَّ إقْرَارُهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ كَيْفَ هُوَ وَأَيْنَ زَنَى وَبِمَنْ زَنَى) وَلَمْ يَذْكُرْ الشَّيْخُ مَتَى زَنَى لِأَنَّ تَقَادُمَ الزَّمَانِ لَا يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الْإِقْرَارِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَ الزَّانِي مُحْصَنًا رَجَمَهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَ) الْمُحْصَنُ مَنْ اجْتَمَعَ فِيهِ شَرَائِطُ الْإِحْصَانِ وَهِيَ سَبْعَةٌ الْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ، وَالدُّخُولُ بِهَا وَهُمَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْصَانِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الدُّخُولِ الْإِيلَاجُ فِي الْقُبُلِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ الْغُسْلَ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِنْزَالُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute