[وسطية أهل السنة في صفات الله]
قال المصنف رحمه الله: [فهم وسط في باب صفات الله سبحانه وتعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة].
ما من بدعة ظهرت في الإسلام، إلا وظهرت بدعة أخرى تناقضها، وهذا الأمر إذا تأمله العارف عرف أن الحق لا يُعرف بالمقابلة، وهذه مع الأسف طريقة استعملها كثيرون الآن، سواء في مسألة الدعوة أو الجهاد أو غيرها؛ فقد صار هناك نوع من التقابل، أو ما يسمى بالمصطلح المعاصر: (ردة الفعل)، والحق لا يعرف بردود الأفعال، ولهذا نقول: ما من بدعة ظهرت في الإسلام، إلا وظهر ما يسمى بردة الفعل، وهي الطرف الآخر المناقض، ودائماً الحق لا يكون طرفاً مناقضاً من كل وجه في مثل هذه المسائل، بمعنى أنه إذا كان القول إفراطاً فإن الحق لا يمكن أن يكون تفريطاً، وإذا كان القول تفريطاً، فإن الحق لا يمكن أن يكون إفراطاً.
إذ لا يجوز أن يكون تحقيق الحق في مسألة ما إنما كان بعد ظهور الباطل؛ لأن الحق سابق.
ومن يبني أقواله على ظهور شيء من الباطل، فيكون تقريره لمسألة الحق متحصلاً من هذا الباطل الذي طرأ، لا يكون حكيماً.
والسلف ما زادهم ظهور هذه البدع أي شيء في أقوالهم، هذه هي طريقة المتقدمين من السلف، لكن كثيراً من المتأخرين من أهل السنة والجماعة إذا اشتغل أحدهم بالرد على بدعة، زاد بسببها في قدر الحق الذي معه، فمن علم بذم علم الكلام وذم المتكلمين، لم يكن عنده سبيل إلى إغلاق هذا العلم إلا بتكفير أصحابه، فيعمد إلى تكفيرهم حتى يقطع مادة هذا العلم، لأنه يرى بعقله ونظره أن هؤلاء المتكلمين -مثلاً- أو المعتزلة، أيهما أحسم لمادتهم عن المسلمين: إذا قيل أنهم أهل بدعة أو إذا قيل أنهم كفار؟ مادة التكفير، فيعمد لا بسوء قصد وإنما بحسن قصد إلى تكفيرهم، خاصةً أن أقوالهم تستلزم الكفر تارة وتتضمن الكفر تارةً أخرى، فيعمد إلى تحقيق الأقوال على أصحابها، فإذا ما كفرهم، انحسمت مادتهم.
وهذا من الطرق المستعملة عند من يقل عقله أو يقل علمه، وهي كثيرة اليوم في صفوف كثير من الشباب، حتى بعض طلاب العلم؛ فمن لم يتسع عقله، أو قل علمه وبصره بالشرع، فإنه يستعمل مثل هذه الطريقة.
والحق أن الحق سابق للباطل في هذه المسائل، فإن مذهب السلف بجميع مسائله موجود زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وزمن أبي بكر قبل أن تحدث في الإسلام بدعة واحدة.
إذاً لا يمكن أن تزيد هذه البدع في قدر الحق، وإنما قد تستعمل أوجه من الحق في دفع هذه البدع لم تستعمل في زمن أبي بكر؛ لأن البدعة لم تظهر.
فهذه مسألة يجب على طالب العلم أن ينتبه لها؛ فردود الأفعال في تعريف الحق غلط، وإنما الحق يعتبر بقدره.
فنقول: ما مِن بدعة حدثت إلا وحدث ما يناقضها أو ما يضادها، فلما حدثت بدعة نفاة الصفات في أوائل المائة الثانية وبعد عصر الصحابة رضي الله عنهم على يد جماعة من النظار من الموالي، كـ الجعد والجهم -وهم أول من أظهر هذه المقالة، وهي منقولة عن بعض مقالات اليونان وفلسفة اليونان، وغيرهم من الملاحدة والكفار الذي تُرجم قولهم إلى المسلمين- فأنكروا صفات الله سبحانه وتعالى، وتقلد هذا المذهب أصحاب الاعتزال الذين كانوا يتكلمون في مسائل القدر والشفاعة والكبائر، فظهرت مقالة نفي الصفات على يد الجهمية -نسبة للجهم بن صفوان وهو الذي أظهر وأشاع المقالة- وصار عند السلف كل من نفى الصفات أو ما هو منها، وصف بالتجهم، نسبةً لهذا الرجل، وليس بالضرورة أن من وصف بالتجهم أو سمي جهمياً أنه يصدق أقوال جهم بن صفوان في سائر مواردها، فإن من ناظر في فتنة خلق القرآن سماهم السلف جهمية، مع أن أساطينهم الذين باشروا المناظرة هم المعتزلة، ونحن نعلم أن المعتزلة تخالف الجهم بن صفوان في أكثر آرائه، فهي تخالفه في مسألة الإرجاء، حيث هو غالٍ في الإرجاء وهم على النقيض من ذلك، ويخالفونه في باب القدر هو جبري وهم قدرية.
بل لا عجب أن في كتب المعتزلة تكفيراً للجهم بن صفوان، وهذا نطقت به بعض كتب المعتزلة، أن أئمتهم يذهبون إلى تكفيره لمسائل قالها في بعض أصول الدين.
ومراد السلف بالتجهم هو نفي الصفات، وليس الشخص نفسه، وإذا ذكروا التجهم يقصدون به نفي الصفات، وليس التقلد المطلق لسائر ما نُقل عن جهم بن صفوان من الآراء أو المقالات والبدع.
وقابلهم المشبهة، والتشبيه لم يقع له أثر في الأمة كما وقع لمذهب التعطيل، فإن التعطيل استعمل تحت جملة التأويل، ولهذا درج عند غلاة المعطلة كالجهمية وأئمة المعتزلة، ثم شاع لما جاءت مدارس متكلمة الصفاتية، وهي التي أشاعت مادة من التعطيل باسم التأويل، وهم أصحاب ابن كلاب والأشعري والماتريدي وأمثال هؤلاء.
فتشبيه صفات الخالق سبحانه وتعالى بصفات المخلوقين لم يقع له أثر كما وقع لمذهب التعطيل والتأويل، وذلك لأن ظهور بطلانه وتعذر استقامته من جهة التأويل بينة، ولهذا أصبح نفور عامة المسلمين عنه مشهوراً معروفاً، وإنما وجد في الأول عند بعض أئمة الشيعة الإمامية، كـ هشام بن الحكم وأمثاله، ثم عدلت عنه الشيعة الإمامية إلى طريقة المعتزلة، أو طريقة البغداديين من المعتزلة على وجه التحديد، ثم ظهر مذهب التشبيه على يد أحد المتأخرين المنتسبين للسنة من المتكلمين، وهو محمد بن كرام السجستاني، وهو من المرجئة الكرامية المنتسبين للسنة والجماعة كانتساب الأشعري، ولكنه استعمل مادة من التشبيه ليس كتشبيه الشيعة الأولى، وإنما وقع في مادة منه.
فأهل السنة والجماعة وسط في صفات الله، يثبتون الصفات على ما يليق به سبحانه وتعالى، دون إفراط على طريقة المشبهة، ودون تفريط يستلزم التعطيل على طريقة المعطلة والمحرفة.