[التكييف والتمثيل والفرق بينهما]
التكييف: هو ذكر كيفية لصفة من الصفات، فإن كل كيفية يذكرها ذاكر أو يتخيلها متخيل، فإن الله سبحانه وتعالى منزه عنها.
والتمثيل: هو ذكر مثال للصفة.
والتكييف والتمثيل كلاهما على معنى التشبيه.
فإن قيل: فما الفرق بينهما؟ قيل: الفرق من جهة أن التكييف هو حكاية كيفية للصفة، ولو لم تكن هذه الكيفية على مثال سابق، وأما التمثيل فإن فيه قدراً من القياس بين شيئين؛ إذ هو ذكر مثال للصفة.
ثم قال: [بل يؤمنون بأن الله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]].
ومن هنا يتحصل -كما سيقرر المصنف فيما بعد- أن مذهب أهل السنة والجماعة في هذا الباب وسط بين التعطيل وبين التشبيه والتمثيل، وإذ قد تبين أن التعطيل فرع عن دليل العقل الذي زعمه أصحابه كذلك، وإلا فهو في الحقيقة ليس من حكم العقل وقضائه، فإن التشبيه والتمثيل مذهب لقومٍ من المتكلمين، وهو فرع عن الدليل نفسه كما سيأتي.
[بل يؤمنون بأن الله سبحانه تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]].
قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] هذه جملة من كتاب الله، وقد اتفق المسلمون على إمضائها، ولا أحد من طوائف المسلمين يعارض في شأن هذه الجملة ودلالتها، ولهذا تُعد هذه الجملة من الجمل التي تذكرها سائر الطوائف في ذكر توحيد الصفات، فأما النفاة للصفات أو لما هو منها، فلا شك أنهم يذكرون هذه الجملة ومعناها؛ إذ ينصرون مذهبهم بما يظنونه مناسباً.
وأهل السنة والجماعة يذكرون أن مذهبهم وسط بين التعطيل والتمثيل، فيقولون: إن الله ليس كمثله شيء مع إثبات الأسماء والصفات له.
فإن قيل: فالمشبهة هل يؤمنون بهذه الجملة من كتاب الله؟ قيل: الجواب: نعم، فإن من وصفوا بأنهم مشبهة من الطوائف ليس أحد منهم يذهب إلى أن الباري سبحانه وتعالى مماثل مماثلة مطلقة للمخلوقين أو لشيء من المحدثات والممكنات، بل هذا مذهب لم يقل به أحد من المنتسبين إلى قبلة المسلمين، صحيح أن مذهب التشبيه والتجسيم عرف عن قوم من متقدمي الشيعة الإمامية كـ هشام بن الحكم وهشام بن سالم وداود الجواربي وأمثال هؤلاء، وعُرف ذكر التجسيم فيما بعد عن جملة من متأخري الحنفية أتباع محمد بن كرام السجستاني الحنفي، إلا أنه لا أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول بمماثلة الباري لأحدٍ من خلقه، فإن نفي هذا القدر من المعنى كما هو منطوق الجملة القرآنية متفق عليه.
فقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] معناه الكلي: أن الله سبحانه وتعالى منزه عن المماثلة المطلقة لأحدٍ من خلقه، وهذا المعنى الكلي قد اتفق سائر القبلة عليه، حتى من قال منهم بالتجسيم كقوم من متقدمي الشيعة والرافضة، أو طائفة من متأخري الأحناف أتباع محمد بن كرام.
لكن هؤلاء المشبهة وإن كانوا يؤمنون بهذا المعنى الكلي، إلا أن الآية نفسها دليل على إبطال مذهبهم، فإنهم لم يحققوا قول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١] حين قالوا: إنه جسم، وحينما صاروا إلى قدر من المشاكلة والقياس في إثبات صفات الباري سبحانه وتعالى وأفعاله؛ فلا شك أن القوم عندهم قدر من التشبيه والتجسيم المخالف لكمال الرب سبحانه وتعالى، ولا شك أن القوم -أعني المشبهة- مخالفون لقول الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١].
ولكن لا يفهم من ذلك أن طائفة من الطوائف الإسلامية تذهب إلى أن صفات الباري كصفات المخلوقين؛ إذ لا أحد يقول بذلك من المسلمين البتة، وإن حكى ذلك بعض المتأخرين من أهل السنة أو غيرهم؛ كبعض الأشعرية ولا سيما في مقام الرد على الأحناف، وكالمعتزلة حين يتحدثون عن المشبهة؛ فإن حكاية أقوال الطوائف بعضهم عن بعض قد يقع فيه قدر من الاستطالة، وإن كان أئمة السنة والجماعة المتقدمين لم يقع منهم استطالة في ذكرهم لأقوال مخالفيهم، ولكن المتأخرين منهم قد يقع من بعضهم بعض الاستطالة في ذكر أقوال المخالفين، وذلك بأخذ المخالفين بلوازم أقوالهم، ومثل هذا لا يُعد مذهباً لأصحابه، وإنما المذهب المعتبر هو ما نطق به القوم.
ولهذا نقول: إنه لم يقع في كلام السلف رحمهم الله أن ذكروا أقوال المخالفين على غير وجهها، لكن المتأخرين من أصحاب الأئمة الأربعة قد يقع منهم زيادة في ذكر أقوال مخالفيهم، سواء كان هذا الفقيه -باعتباره منتسباً لأحد الأئمة الأربعة- ينتسب إلى السنة والجماعة وطريقة الأئمة المحضة، أو كان ينتسب إلى طريقة كلامية، فإن بعض الحنابلة -كمثال- زادوا في ذكرهم لأقوال الأشعرية، وكذلك بعض الأشعرية زادوا في ذكرهم لأقوال السلفية من الحنابلة ..
وهلم جراً.
وهذا أمر مطرد ليس في الفقهاء الذين مروا في القرون المتأخرة، بل يوجد قدر منه في هذا العصر، فمثلاً: حين تُذكر أصول المدرسة الأشعرية -كمثال- ترى بعض الباحثين يجعل لها أصولاً مبنيةً، وحين يقرر أصول هذه المدرسة بالمسائل والدلائل: (ماذا يثبتون من الصفات، ما هو مصدر التلقي عندهم).
تجد أنه يقرر أصول هذه المسألة حسبما يذكره محمد بن عمر الرازي في كتبه.
ولا شك أن طرد منهج الأشعرية في الدلائل والمسائل على طريقة الرازي ليس من العدل، فإن ثمة فرقاً بين طريقة الرازي وبين طريقة الجويني فضلاً عن طريقة القاضي أبي بكر الباقلاني، فضلاً عن طريقة أبي الحسن الأشعري نفسه، ولا سيما في آخر آحواله التي نصر فيها -ولا سيما في المنهج- مذهب أهل السنة والحديث.
إذاً الاستطالة لا يسلم منها أحد من الطوائف المتأخرة حتى المنتسبين للسنة والجماعة منهم، وهذا مما ينبغي لطالب العلم أن يدركه: وهو أن المتكلم وإن كان سنياً فليس بالضرورة أن سائر ما ينقله عن غيره يكون نقلاً عدلاً وصواباً، وليس بالضرورة أن يكون موجب هذا الغلط هو الكذب المحض، بل قد يكون موجبه غلط في الفهم أو في النقل أو ما إلى ذلك، وكلنا يعلم أنه وقع حتى في بعض الكتب المتقدمة -كالسنة لـ عبد الله بن أحمد - نقل واسع في ذم أبي حنيفة ورميه بكثير من البدع، مع أن جمهور ذلك لا يثبت منه شيء.
فباب الاستطالة هو باب من أحوال النفس والإرادات، وليس معتبراً بالعقائد، فحينما يكون الرجل سنياً أو سلفياً فليس بالضرورة أن كلامه عن الآخرين يكون على طريقة الصواب والجزم، بل قد يقع منه غلط في النقل، ومن ذلك -كما أسلفت- ما وقع من بعض الحنابلة أو غيرهم، ومن ذلك أيضاً ما يذكره كثيراً أبو إسماعيل الأنصاري الهروي، فإنه سني في الجملة ولا سيما في باب الأسماء والصفات، ولكنه إذا ذكر أقوال المخالفين للسلف في باب الأسماء والصفات زاد عليها زيادة كثيرة، ورماهم بكثير من اللوازم إلى حد الزندقة، كما صنع مع مخالفيه من الأشعرية، وإن كانت الاستطالة عند مخالفي أهل السنة أكثر منها فيهم، وهذا -كما أسلفت- في متأخري المنتسبين إلى السنة والحديث، وليس في أئمة السلف.