[الدرجة الثانية: المشيئة والتقدير]
قال المصنف رحمه الله: [وأما الدرجة الثانية: فهي مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السماوات وما في الأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله سبحانه، لا يكون في ملكه ما لا يريد، وأنه سبحانه على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات، فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه سبحانه، لا خالق غيره، ولا رب سواه، ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته].
هذه إشارة من المصنف إلى مسألة الجمع بين الشرع والقدر، وهي أن العباد مأمورون بما أمر الله به، منهيون عما نهاهم الله عنه، وأن هذا الشرع لا يعارض بشيء من القدر.
قال المصنف رحمه الله: [وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين، ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد، والعباد فاعلون حقيقة، والله خلق أفعالهم].
قوله: (فاعلون حقيقة) (فاعلون) خلافاً للجبرية، (حقيقة) خلافاً للأشعرية الذين يوافقون أئمة السلف في الجملة اللفظية ويقولون: هذا من باب المجاز وما إلى ذلك.
قال المصنف رحمه الله: [والعبد هو المؤمن والكافر، والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم، ولهم إرادة، والله خالقهم وقدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:٢٨ - ٢٩]، وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة].
جاء هذا في حديث ابن عمر: (القدرية مجوس هذه الأمة)، والمصنف هنا أطلق الحديث، وإن كان الحديث مما يعلم أنه فيه كلاماً من جهة صحته، فمن أهل العلم من حسنه، ومنهم من لم ير صواب ثبوته، وهو الصحيح؛ فإنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في طوائف المبتدعة نص من جهة التسمية، فكل النصوص المنقولة في تسميته للرافضة أو تسميته للقدرية وما إلى ذلك، كلها ليست صحيحة من جهة رفعها.
قال المصنف رحمه الله: [ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره].
قوله: (ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات): إشارة إلى الأشاعرة، وهذه الإشارة فيها لطف مع المخاطبين، وإن كانت لم تتضمن تقصيراً في المعنى المراد، وهذا هو المنهج المشروع في الأصل، أن المجادلة للمخالف لا تكون بالألفاظ الموجبة لجفائه، وإن كان هذا موجوداً في كلام أهل السنة، وقبل أن يكون ذلك موجوداً في كلام أهل السنة هو موجود في القرآن مع الكفار، لكن ليس الموجود في القرآن هو الألفاظ المحركة للنفوس إلى الجفاء، فليس كل ما ورد في القرآن من مخاطبة الكفار يحرك نفوسهم إلى الجفاء، ولذلك من التزم هذا المنهج، وقال: هذا هو منهج السلف، فقد أخطأ على السلف، نعم ..
يوجد في كلام السلف حروفٌ فيها جفاء مع المخالف الذي فيه مادة عناد أو مكابرة، أو كان ذلك لمصالح شرعية، لكن ليست هذه الحروف من الجفاء في الكلام معهم هي الحروف المشروعة وحدها، فهذا ليس صحيحاً، كما أن العكس غلط، فهناك البعض الآن حتى من طلاب العلم الذين قد يكون عندهم نظرة أخرى، يقولون: ينبغي له أن يحدث بالألفاظ اللينة وما إلى ذلك، فهذا ليس صحيحاً، بل هذا مشروع وهذا مشروع، كما قال الله في أهل الكتاب: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:٤٦]، وقال لموسى وهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:٤٤]، وهذا في الابتداء، لكن في قصة موسى وهارون مع فرعون إذا رجعت إليها في تفاصيلها في القرآن وجدت فيها قول موسى له: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:١٠٢]، وهذا فيه شدة.
فالله قال في كتابه: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا} [طه:٤٤]، وموسى قال له: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:١٠٢]، وليس هذا من عدم تطبيق موسى لأمر الله، فإن الله شرع له ذلك في الابتداء، ولهذا فإن الأصل في الابتداء في خطاب المعين: أنه يُقصد إلى ما يحرك نفسه إلى قبول الحق، أما إذا صار عنده مادة من الاستكبار والعلو، فإنه يقال له ما يوجب كسر بأسه، وشدته، وعلوه، ونشره لهذا الباطل، ولذلك في أهل الكتاب لم يقل الله: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت:٤٦] على الإطلاق؛ لأن من أهل الكتاب من هو ظالم، وليس في قلبه إلا الكبر والعناد، فقال سبحانه وتعالى: {وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} [العنكبوت:٤٦].
فأهل البدع على كل تقدير هم أقل من الكفار، فهم بحاجة إلى الخطابين، ومن صدق النظر وصار صاحب عقل وفهم استطاع أن يجد في كلام السلف هذا وهذا، وأما من ضاق عقله في الغالب، فتجد أنه يغلو ولا يتكلم معهم إلا بالسيئ من الكلام.
وهذه الأمة مما حسن الله سبحانه وتعالى في حقها الأخلاق، وليس لها مثل السوء حتى في لسانها، ولهذا فإن المؤمن ليس بالطعان ولا باللعان ولا بالفاحش ولا البذيء، والبذاءة مع المخالف هي مشروعة إذا اقتضتها المصلحة الشرعية، أما أنها تكون بذاءة نفسية فيتعود الإنسان على البذاءة دائماً فلا.
والمنهج القرآني في خطاب الكفار، وكذلك منهج السلف مع أهل البدع هو استعمال اللفظ المقرب للنفوس، وقد يستعمل معهم لفظ يكون محركاً لنفوسهم للعناد عندما يحققون هم مقام العناد.
وهذا على كل حال فقه لا يمكن ضبطه في كلمة أو كلمتين، والمقصود أن هذا مشروع وهذا مشروع، فمن هجر أحدهما فليس هو على استقامة تامة.
قال رحمه الله تعالى: [ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها].
هذه إشارة إلى مسألة الحكمة.
إذاً: إذا تأملت كلام شيخ الإسلام في باب القدر في الواسطية وجدته ذكر الأصول السبعة، فبعض الأصول سماها على درجات، وبعضها ألحقها ببعض المسائل الأخرى من باب التلازم لا من باب اختصار معناها.