[ما اجتمع عليه أهل القبلة وما اختلفوا فيه]
قال المصنف رحمه الله: [وهو الإيمان بالله وملائكته
إلخ].
المصنف في رسالته، بل جمهور من كتب من أهل السنة والجماعة في أبواب أصول الدين يعنون -إذا ذكروا مسائل أصول الدين- بالجمل الخبرية التي وقع في مناطها كثيرٌ من الاختلاف، وهذا تحته تعليقان:
الأول: أن هذه الجمل الكلية من معتقد المسلمين جمهورها متفق عليه بين سائر أهل القبلة.
فمثلاً: حين يقال: إن ثمة خلافاً بين الطوائف في مسائل الأسماء والصفات، فهذا لا شك أنه ثابت، ولكن إذا اعتبرت كليات هذا الباب وهو القول بأن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وأنه سبحانه وتعالى مستحق للكمال منزه عن النقص ..
إلى غير ذلك من هذه الكليات؛ فإن المسلمين جميعاً قد اتفقوا عليها، ولا يعقل أن أحداً ينتسب إلى الإسلام أو إلى شريعة نبي من الأنبياء صدقاً ينتقص الرب سبحانه وتعالى أو يقول بأنه ليس مستحقاً للكمال.
وفرق هنا بين الأقوال الدالة بمنطوقها على ذلك، وبين الأقوال التي تستلزم هذا أو تتضمنه، ولكن صاحبها لا يقصد بها هذا المفهوم؛ فأقوال الجهمية -بل ومن دونهم- تعطيل للرب سبحانه وتعالى عن صفات الكمال، ولكن هذا التعطيل هو إما من جهة التضمن، وإما من جهة اللزوم في مذاهبهم.
أما أنهم صرحوا بهذا التعطيل حرفاً وقصدوه، وعرفوا أنه من النقص، فهذا لم يقع لهم ولم يقع لأحد من أهل القبلة.
الثاني: جمهور المصنفين في معتقد أهل السنة والجماعة -والمصنف في هذه الرسالة- يذكرون المسائل التي هي محل نزاع من جهة تفاصيلها.
فمثلاً: قد يقول قائل: إن مسائل الربوبية -بل وحتى مسائل الألوهية- لا نراها تفصل في الكتب التي تذكر معتقد أهل السنة والجماعة، فإنه وإن كان ثمة كتب من كتب أهل السنة والجماعة مختصة بهذا الباب -كتوحيد العبادة؛ ففيه مصنفات كثيرة- لكن عند النظر فيما صنف في المعتقد نجد أن جمهور هذه الكتب لا تذكر مسألة توحيد العبادة إلا على قدر من الإجمال، ولا تذكرها تصريحاً، والمصنف في هذه الرسالة لم يعن بتقرير هذه المسألة.
وكأن هذا إشارةٌ -والله أعلم- إلى أن السلف رحمهم الله ومن بعدهم من أتباعهم اشتغلوا بذكر الأصول التي صارت مورد نزاع.
وهذا يبين أن توحيد الربوبية من جهة حقائقه، أو بتعبير أدق: من جهة نتائجه: ليس مورد نزاع، فإن هذا الأصل من حيث هو كلي كان المشركون مقرين به، وإن كان يقع لهم انحراف عن بعض تفاصيله بما هو من الشرك، لكن مسائل الربوبية لم يشتغل السلف رحمهم الله بتفصيلها وتقريرها: كمسألة إثبات وجود الله وأنه الخالق وأنه الملك وأنه المدبر
إلى غير ذلك.
وإن كانوا فصلوا في باب الأسماء والصفات الذي حقيقته أنه من أخص مقامات الربوبية لله سبحانه وتعالى، فإن غرضهم بتفصيل مسألة الأسماء والصفات هو بيان أن الله سبحانه وتعالى متصف بهذه الصفات، وأنها صفات تقوم بذاته، وهذا درءٌ للقول الذي أحدثته الجهمية والمعتزلة من القول بأن الرب سبحانه لا يقوم بذاته شيءٌ من الصفات، وإن كانت سائر طوائف المسلمين تثبت ما هو من أحكام الصفات، وإلا فإن من نفى الصفات -أي: من نفى قيام الصفات بالذات- ونفى أحكام الصفات، فإنه لا يكون من الإسلام في شيء، بل ولا ينتسب إلى ديانة نبي من الأنبياء صدقاً.
فإن الجهمية والمعتزلة وإن قالوا: إن الرب سبحانه وتعالى لا يقوم بذاته صفة العلم أو القدرة أو السمع أو البصر أو ما إلى ذلك، لكن لا أحد منهم يصف الله سبحانه وتعالى بضد ذلك، فإنهم وإن لم يقولوا بأنه يقوم بذاته العلم، فإنهم لا يصفونه بالجهل
وهلم جراً.
وأيضاً فإنهم يثبتون أحكام الصفات، أي: كون الرب سبحانه وتعالى لا يعزب عنه شيء، فهذا المعنى من جهته حكماً تثبته الجهمية والمعتزلة وسائر من نفى الصفات، وإن كانوا لا يثبتونه صفةً تقوم بذات الرب سبحانه.
إذاً: باب الربوبية لم يشتغل الأئمة بتفصيله كمسألة وجود الله ونحوها؛ لأن القرآن نفسه لم يذكر هذه المسألة على التفصيل التقريري للمؤمنين باعتبارها مسألةً فطرية، وباعتبارها محل إقرار عند جمهور الناس، وإن كان -كما أسلفت- يقع للمشركين انحراف -بل شرك- في بعض تفاصيل الربوبية.
وأما مسألة الألوهية: وهي إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، فهذه المسألة هي أخص مسألة تذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى، ومشركو العرب كانوا مخالفين في هذا الأصل، بل هو أصل مخالفتهم هم وغيرهم من المخالفين للرسل، بل يمكن أن يقال: إن العرب لم يكونوا على إظهار للمخالفة في مسائل الأسماء والصفات، بل كان القرآن بين ظهرانيهم يسمعونه، ومع ذلك لم يعترضوا على النبي صلى الله عليه وسلم بشيء في باب الأسماء والصفات أو أن العقل يمنع شيئاً من ذلك.
وهذا المعنى من جوابات أهل السنة والجماعة على المعتزلة والجهمية الذين زعموا أن العقل يمنع ثبوت هذه الصفات، فيجيب عليهم أهل السنة بأن العرب لم يعترضوا على شيء من هذا بما يقال: إنه من الطرق العقلية التي لا تختص بأمة من الأمم.
فالذي ذُكر في القرآن على التفصيل هو توحيد العبادة الذي هو إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة.
فهنا يقال: هل توحيد العبادة من المسائل التي حدث فيها نزاع بين أهل القبلة؟
هنا جهتان:
الجهة الأولى: أن يقال: إنها مسألة حدث فيه نزاع نظري.
الجهة الثانية: أن يقال: إنها مسألة حدث فيها انحرافٌ عند كثير من الطوائف.
أما على الاعتبار الأول فيقال: إن هذه المسألة باعتبار أصولها مسألة محكمة، بمعنى: أنه لم يسوّغ الشرك على الإطلاق أو يبطل التوحيد على الإطلاق أحد من الطوائف إبطالاً نظرياً، نعم وقع في كلام بعض علماء السنة والجماعة من المتأخرين ومن أخصهم الإمام ابن تيمية رحمه الله أن المتكلمين لم يشتغلوا بتقرير توحيد الألوهية، وهذا حق، فإنك إذا نظرت كتب المتكلمين من سائر طوائف المتكلمين لا ترى أن لهم اشتغالاً بتقرير هذا التوحيد، ولكن هناك فرقاً بين كون القوم لم يشتغلوا بتقريره -ولا شك أن ذلك تقصير وافتيات على الأصول- وبين كون القوم لا يقرون به أو حتى لا يعرفونه.
ولهذا: إذا قيل: إن المتكلمين لا يعرفون هذا التوحيد، فإن هذا القول على هذا الإطلاق ليس بصحيح، إلا إذا فسر بمعنىً صواب، فإذا فسّر بأنهم لا يفرقون بين توحيد الله والشرك به فهذا لم يقع لطائفة من الطوائف، بل إن الرازي مثلاً -وهو من المتكلمة المتأخرين من الأشاعرة- إذا ذكر بعض مسائل الشرك الأكبر ذكر أن هذا كفرٌ وخروج من الملة بإجماع المسلمين.
إذاً يقال: إن الذي وقع عند طوائف المتكلمين هو عدم تحقيق هذا الأصل الشريف وهو توحيد العبادة؛ لأنهم لم يشتغلوا بتقريره وبيانه والدعوة إليه والدفاع عنه ..
فهذا الحق قصر فيه هؤلاء المخالفون، وليس هو أول تقصيرهم أو خروجهم عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
أما أن القوم ينكرونه أو لا يؤمنون به أو ما إلى ذلك من المعاني، فهذا ليس بصحيح، فإنه لم يقع لطائفة من الطوائف من أهل الكلام أنها نظّرت في كتبها لمسائل الشرك وأقرتها، وأبطلت مسائل توحيد العبادة وردتها.
إذاً: هذا الأصل وهو توحيد العبادة من جهة كونه أصلاً نظرياً لم يقع فيه اختلاف نظري، لكن الذي وقع هو انحراف في تطبيقه وتحقيقه، وهذا الانحراف جمهوره وقع عند القاصدين إلى مسائل العمل، ممن دخل باسم التصوف أو العبادة أو ما إلى ذلك؛ فإن جمهور هؤلاء العباد المتأخرين المنحرفين عن سبيل السنة والجماعة ومن يتبعهم من العامة وقع لهم انحراف أو تقصير في هذا التوحيد، فضلاً عن الشيعة؛ فإنهم أيضاً منحرفون في كثير من مسائل هذا التوحيد.
إذاً: هذا التوحيد وقع فيه بين طوائف المسلمين انحراف؛ بل يوجد عند بعض الطوائف انحراف يصل إلى حد الشرك الأكبر أحياناً، لكنه يقرر بوجهٍ من العمل، ليس على جهة كونه شركاً أكبر مضاداً للتوحيد، بل كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (إنما يقع من المخالفة في العمل عند طائفة من هؤلاء يحسبون أنها من الإيمان الذي بعث به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: مع أنه يعلم بالضرورة أنها من الشرك الذي بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بإبطاله).
فهو انحراف شائع، إما شرك أصغر وإما بدع، وتارةً يكون شركاً أكبر، وهذا الانحراف ليس مخصوصاً بهؤلاء وهؤلاء، بل حتى عند كثير من المتكلمين يقع شيءٌ من ذلك في بعض المسائل، ولا سيما بعدما امتزجت كثير من مسالك الصوفية بمسالك المتكلمين.