[موقف أهل السنة والجماعة من الصحابة]
قال رحمه الله: [فصل: ومن أصول أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:١٠]].
قوله: (ومن أصول أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم وألسنتهم)، ذكر القلوب والألسنة، لأن الواجب هنا أن يكون المسلم على فقه بشأن الصحابة وبما حصل من النزاع بينهم، يوجب له هذا الفقه ألا يقع في قلبه شيء على الصحابة رضي الله تعالى عنهم، ولا يكفي في ذلك أنه لا يعبر؛ فإن بعض الناس قد يعرض في نفسه ما هو من الإشكال في شأن الصحابة ولا يعبر به، ومحقق الإيمان لابد أن يتصف بسلامة قلبه ولسانه لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وتعظيم شأن الصحابة قد قال بعض أهل البدع أنه لا يدخل في مسائل أصول الدين، وهذا غلط؛ لأن هذا من أخص مسائل أصول الدين، ومن طعن في الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقد خالف ما هو من أهم الأصول وأخصها.
فإن قيل: فما موجب ذلك؟ قيل: لأن الله في القرآن جعل ثبات الإسلام ومنهج الإسلام مرتبطاً بأصحاب نبيه، قال الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:١٠٠]، وهذه الآية من أقوى وأصرح ما في القرآن، وفيها خطاب شرعي وخطاب عقلي، فيمكن أن يستدل بها استدلالاً عقلياً في الرد على الروافض الذين يطعنون في الصحابة، فقوله جل وعلا: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) هذا أقوى مما لو كان في سياق الآية أن السابقين الأولين هم أهل الإيمان، أو هم أهل المنهج الحق، أو يجب اتباعهم؛ لأن الله قال: (رضي الله عنهم ورضوا عنه)، وهذه الدرجة -وهي الرضا- درجة عظيمة؛ قال تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:٧٢]، فهي لا تكون إلا لأئمة المؤمنين المحققين للإيمان علماً وعملاً، ولذلك فما وصف الله سبحانه وتعالى أحداً بالرضا إلا إذا كان محققاً لهذه المنزلة؛ وهي أنه محقق للإيمان علماً وعملاً، فهذه شهادة صريحة من الله لهم بأنهم مؤمنون محققون للإيمان علماً ومحققون له عملاً؛ لأن بعض الناس قد يكون صاحب نسك ولكنه ليس صاحب علم.
فقوله: (رضي الله عنهم) هو أقوى من التصريح بكونهم مؤمنين؛ لأن الرضا لا يكون إلا لمن حقق الإيمان، ولأن الرضا حكم متعلق بالمآلات، بخلاف اسم الإيمان الذي قد تعقبه مخالفة أو كفر أو ما إلى ذلك، فقوله: (رضي الله عنهم) هو حكم متعلق بالمآل على التمام، ولو كانت الآية وقفت عند هذا لكان هذا كافياً في هذه الدلالة، ولكن الآية فيها تصريح أتم وأقطع لشبهة من عنده شبهة، فقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} [التوبة:١٠٠]، فجعل هذا الذي عليه أصحاب نبيه هو الحق؛ لأنه قال: (والذين اتبعوهم)، فعُلم أن الهدي الذي كانوا عليه -أعني: السابقين من المهاجرين والأنصار- هو الحق الذي رضيه الله ديناً لعباده، فكان اتباع الصحابة حكماً مطرداً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن تقوم الساعة.
وكما أن قول الله تعالى عن القرآن: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ} [الزمر:٥٥] هو أمر باتباع ما أنزل؛ فكذلك الأمر باتباع الصحابة، فعُلم أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم هديهم هو الدين الذي شرعه الله ورسوله، فمن خالفهم -فضلاً عمن طعن فيهم- لا شك أنه ليس على إيمان صحيح؛ لأن الإيمان الصحيح جعل الله له مساراً واحداً هو: (والذين اتبعوهم بإحسان)، فلم يقل: الذين اتبعوا القرآن، ولم يقل: والذين اتبعوا محمداً عليه الصلاة والسلام، مع أنه لا شك أن اتباع القرآن واتباع محمد عليه الصلاة والسلام أشرف من اتباع الصحابة، ولكن المقصود هنا أن هؤلاء القوم -وهم الصحابة- متبعون للقرآن، متبعون لمحمد صلى الله عليه وسلم، فقال: (والذين اتبعوهم) ولم يقل: الذين اتبعوا مؤمنهم أو صادقهم، إنما قال: (اتبعوهم)، والضمير يعود إلى السابقين من المهاجرين والأنصار، وقد أضاف الاتباع إلى سائرهم.
وقال تعالى: (بإحسان) وهذا يدل على أن هذا الاتباع يجب أن يكون محققاً، وأنه لا يُجتهد بمخالفته بما يوجب مخالفتهم ولو كان هذا مبنياً على الاجتهاد؛ ولذلك فإن أي قول في العلم في الأصول أو في الفروع يخالف ما هو من قول الصحابة فلا يجوز الالتفات إليه، حتى ولو كان صاحبه قد بناه على نوع من النظر والاجتهاد، يخالف منهج الصحابة وأصول الصحابة وقاعدة الصحابة أو ما انضبط عن الصحابة، أو ما إلى ذلك من المسائل.
وإذا اختلف الصحابة جاز الاجتهاد.
والمقصود: أن ما كان من منهجهم المنضبط أو أقوالهم المنضبطة لم يجز العدول عنه، فهذا هو معنى قول الله: (بإحسان)، فقيد الاتباع بكونه بإحسان، أي: أنه اتباع مقتصد، لا غلو فيه ولا تقصير، ولا إفراط فيه ولا تفريط.
فهذا يدل على أن الطائفة التي تسير على منهجهم هي التي ينتظر لها من المنزلة ما حصل للصحابة، وذلك لقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة:١٠٠]، فهؤلاء مستحقون لهذه المنزلة، ولا تستحق منزلة الرضا إلا بهذا الاتباع، فعُلم أنه لا مسار للمسلمين إلا ما كان عليه أصحاب رسول الله، فما خالفه فهو بدعة وضلالة في الدين.