للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[تميز أهل السنة في العبودية لله من فقههم لصفات الله]

إن المعاني التي تذكر في مقام العبودية عن محبة الله لا يدركها أولئك المتكلمون، وهذا يبين أن مسألة الأسماء والصفات ليس صحيحاً أنها من المسائل النظرية، بل هي من المسائل الإيمانية المتعلقة بالعبادة.

ونقصد بهذا أن محبة الله سبحانه وتعالى لما فسرها من فسرها من المتكلمين بإرادة الإنعام، صاروا إذا ذكرت هذه الصفة في القرآن في مقام العبودية يقصر فهمهم عنها.

مثلاً: الأصول الثلاثة للعبادة، وهي أصول العبودية عند الصحابة رضي الله عنهم، وهي عبادته سبحانه وتعالى محبة، وعبادته خوفاً، وعبادته رجاءً؛ ترى كثيراً من الصوفية ومن تأثر بهم، وكذلك بعض المتكلمين الذين تكلموا في الأحوال ومسائل العبادة والسلوك إذا ذكروا الخوف فسروه بالخوف من العذاب أو من عذاب جهنم، وإذا ذكروا رجاء الله قالوا: يعبد سبحانه وتعالى رجاء جنته، وما فيها من النعيم.

ولا شك أن تفسير الخوف والرجاء بهذا تفسير قاصر؛ لأن أعظم الرجاء ليس هو رجاء الجنة، بل أعظم الرجاء هو رجاء محبته سبحانه وتعالى ورضاه؛ ولهذا قال تعالى في سياق ما وعد به المؤمنين: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:٧٢]، فرضاه سبحانه وتعالى ومحبته لعباده أعظم رجاء منهم إليه مما في جنته سبحانه وتعالى من النعيم.

وكذلك الخوف؛ فإنه لا شك أن الخوف من النار من الخوف الشرعي ومن الخوف العبادي؛ لكن أشرف الخوف في مقام العبودية هو الخوف من سخطه وغضبه ومقته وما إلى ذلك.

فبفقه هذه الأسماء والصفات يقع لأهل السنة في مقام الأحوال والسلوك ما لا يقع لغيرهم من التقرير.

إذاً: قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:١٩٥] إثبات لصفة المحبة.

وكذلك قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:٩] إثبات لها كذلك.

وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:٧] إثبات لها كذلك.

هذه الآيات الثلاث فيها قدر آخر من المعنى فيه اشتراك، فإن الله علق محبته لعباده بمقام العدل.

فإن قوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:١٩٥] ذكر لمقام العدل، فإن أشرف مقامات العدل: الإحسان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) كما في الصحيحين، وهذا عدل من جهة، وإحسان من جهة أخرى.

ولهذا نقول: إن كل عدل فإنه إحسان، وليس صحيحاً ما يتبادر أن الإحسان هو الأمر الذي يقع على سبيل التفضل، أو أن الإحسان هو الأمر الذي لا يكون واجباً، وأن الأمر إذا كان واجباً لا يسمى إحساناً، بل الإحسان هو الفعل لما يستحق، سواء كان هذا الاستحقاق على الوجوب أو لم يكن كذلك.

ولهذا لما ذُكِرَتْ مقامات العبودية، جُعِل أشرفها مقام الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه).

وكذلك قوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:٩]، وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:٧] هذه كلها تحقيق لمبدأ العدل.

ولهذا مِن أشرف مسائل العبودية المتعلقة بحقوق الخلق أن يكون العبد على قدر من العدل والإحسان.

ولهذا لما ذكر النبي عليه الصلاة والسلام المخرج من الفتن -كما في حديث عبد الله بن عمر في الصحيح- قال: (فمن أحب أن يُزَحْزَح عن النار ويُدْخَل الجنة، فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر.

ثم قال: وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه).

<<  <  ج: ص:  >  >>