الطائفة الثانية: وهي الجبرية، وهم الذين يقولون: إن العباد مجبرون على أفعالهم، وهؤلاء الجبرية غلوا في الأصول الأربعة الأولى، ولا سيما في الأصل الثالث والرابع، حتى سلبوا العبد قدرته ومشيئته وإرادته، فينكرون الأصل السادس الذي هو: أن العباد لهم مشيئة وإرادة مختصة في وجود الفعل من عدمه، ويقولون: إن العبد ليس له إرادة بل هو مجبور على فعله، وهذا مذهب الجهم بن صفوان، وهو مهجور عند جهور طوائف المسلمين فضلاً عن سواد العامة، وإنما تأثر به من تأثر لما استقى من مادة هذا القول بعض متكلمة الصفاتية، وأخصهم أبو الحسن الأشعري رحمه الله، فإن الأشعري لما رجع عن قول المعتزلة ومذهبهم -والمعتزلة قدرية في باب القدر- رجع إلى مذهب كان يظن أنه مذهب السنة والجماعة، وهو ما سماه الأشعري في كتبه بمذهب الكسب، والكسب حرفٌ قرآني، أما الجبر فليس حرفاً قرآنياً، فليس في القرآن أن أفعال العباد جبر، لكن في القرآن أن أفعال العباد كسب، كقول الله تعالى:{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة:٢٨٦]، فهي كسب للعباد، ولكن الأشعري أقام على لفظ الكسب وفسره بما هو فاسد في معناه، فصارت حقيقته الجبر، فيؤخذ على الأشعري في اللفظ والمعنى.
أما في اللفظ: فيؤخذ عليه إقامته عليه، فإنه إذا ذكر مسألة القدر قصرها على هذا الحرف، مع أن القرآن في أفعال العباد فيه حروف كثيرة، وإنما اجتنبها الأشعري لأن مادتها تشكل على مادته، فكان يقصد إلى عدم ذكرها هو وأكثر أصحابه، فيؤخذ عليهم إقامتهم على هذا الحرف من جهة وتركهم للحروف والألفاظ الأخرى؛ هذا من جهة اللفظ.
أما من جهة المعنى: فإن الأشعري فسر الكسب تفسيراً منغلقاً حتى على كثير من أصحابه، وقد صرح بأنه منغلق، والمحصل من هذا التفسير أن العبد له إرادة ومشيئة، ولكنها مسلوبة التأثير، وهذا لا بد أن يكون جبراً.
وقد صرح بأن هذا جبر جماعة من أهل العلم كـ شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكن إذا أردت مقام الرد، وقلت: إن شيخ الإسلام قال: إنه جبر، فإن المخالف في هذا قد لا يكون مستجيباً؛ لأن المفسر لقوله إمام خارج عن مذهبه، فيكون الأقوى هنا إذا وجد في كلامهم من يلتزم بهذا اللازم من جهة الحروف.
وقد صرح الشهرستاني في كتبه، وكذلك محمد بن عمر الرازي في المطالب العالية، أن مذهبهم في هذا الذي ذكره الأشعري جبرٌ متوسط، فليسوا جبرية غالية، وهذا القول الذي قاله الرازي والشهرستاني صحيح، فإنهم ليسوا جبرية غالية من جنس غلو جهم بن صفوان.
وكما أن ثمة فرقاً بين رجال الإسناد والمعتزلة، فثمة فرق بين الأشعرية وجهم بن صفوان، وإن كان الأشعرية أنفسهم قد صرحوا بأن قولهم هذا جبر، ولكنهم قالوا: جبر متوسط.
فالمقصود: أن هذا القول حقيقته أنه جبر.
وقد تقلد هذا القول بعض الفقهاء من أصحاب الشافعي وأصحاب مالك الذين تأثروا بمذهب أبي الحسن الأشعري في مسألة القدر، فقول الأشعري في القدر هو قول منغلق، ومادته في نفس الأمر هي مادة جبرية، وإن كان حرفه من الأحرف القرآنية.
فهذه هي الطوائف المخالفة للسلف في باب القضاء والقدر.