[مسألة لعن المعين]
قال المصنف رحمه الله: [قوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء:٩٣]].
في هذه الآية إثبات: غضب الله على قاتل المؤمن وإثبات لعن الله له، هذا هو المعنى المراد في الآية، وفيها مسألة أخرى، وهي لعن المعين من الفساق، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر بعض الكبائر ولعن أصحابها، فهل يلعن أصحابها أم لا يلعنون؟
أما لعن الجملة: فقد جاء ذكره في القرآن والسنة، مثل: لعن آكل الربا، ولعن السارق، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده)، كما في حديث عائشة في الصحيح، فهذا اللعن للنوع لا بأس به.
أما لعن المعين: كسارق بعينه، أو قاتل بعينه، أو ما إلى ذلك ممن لُعن في القرآن أو في السنة نوعه، فالجمهور من السلف -وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد وكبار المتقدمين- أن هذا لا يجوز؛ لأن هذا لم يرد ذكره في النصوص.
ولعن النوع لا يستلزم لعن المعين، ولا سيما إذا اعتبرت قاعدة أهل السنة والجماعة في أهل الكبائر.
فإنه لا يلزم أن يلحقهم اللعن على معناه؛ لأنه قد يغفر الله لهم، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] فقد يغفر له ولو لم يتب، ومن هنا لا يلزم أن يكون هذا اللعن لاحقاً له.
إذاً: عندنا جهتان في عدم لعن المعين:
الجهة الأولى: أن هذا ليس له سلف في تفصيل القرآن والسنة وهدي الرسول وأصحابه.
الجهة الثانية: جهة المعنى، فإنك تقول: إذا كانت قاعدة أهل السنة: أن الله قد يغفر لأهل الكبائر، أو لمن لُعنوا من أهل الكبائر مغفرة محضة، وهذا متفق عليه بين السلف، حتى ولو لم يتوبوا، فقد يغفر الله لهم عفواً وفضلاً، وقد تكون لهم حسنات أكثر من سيئاتهم، إلى غير ذلك.
فإذا غفر الله لهم لم يلحقهم اللعن، ولم يلحقهم الوعيد؛ لأن اللعن من الوعيد ..
ومن لعن معيناً كمن لعن سارقاً مثلاً، فهذا اللاعن إما أن يكون لعْنُه للسارق يقصد به الإخبار، فلعنه على جهة الإخبار لا يجوز، لأن الإخبار جزم، والجزم ليس سائغاً؛ لأن الله يقول: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨]، وإما أن اللاعن يلعن المعين لا من باب الإخبار، وإنما من باب الدعاء، فلعنُه دعاءً فيه إغلاق للرحمة.
وقد يقول قائل: على هذا يلزم أن لا يجوز الدعاء على أحد.
نقول: ليس كذلك؛ لأن ثمة فرقاً بين مطلق الدعاء وبين الدعاء باللعن ونحوه.
ومن هنا ترك أئمة السنة كـ أحمد وغيره اللعن للمعين من الفساق، وسوَّغه جماعة من أصحاب الأئمة كـ ابن الجوزي، وكـ أبي حامد الغزالي.
ومع ذلك نقول: إن هذه المسألة ليس فيها إجماع، وقد حكى بعض المتأخرين إجماع السلف على عدم جواز لعن المعين الملعون نوعُه في القرآن أو في السنة، وهذا الإجماع ليس بصحيح، نعم هو المشهور في مذهب المتقدمين، وهو المنقول في جوابات كثير من الأئمة، لكنه ليس إجماعاً؛ فالجزم بالإجماع لا وجه له؛ لأن هذا الإجماع لم ينضبط.
إذاً: ذكرنا وجهين لمنع لعن المعين:
الوجه الأول: التأسي بالسلف الذين ما كانوا يلعنون.
الثاني: أن في اللعن قدراً من الإغلاق.
بعض المتأخرين يقول: إن سبب عدم جواز اللعن للمعين: أن اللعن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله والإقصاء المطلق، ومرتكب الكبيرة كالسارق -مثلاً- مُسلِم؛ فلا يُدعَى عليه بالإقصاء المطلق عن رحمة الله؛ لأن الإقصاء والطرد والإبعاد عن رحمة الله إنما يكون في حق الكفار.
وهذا وإن كثر في كلام بعض المتأخرين، إلا أنه ليس بصحيح؛ لأنه لو كان هذا هو المعنى لما أمكن لعن حتى النواة.
إذا فُسِّر اللعن بأنه: الطرد والإبعاد المطلق عن رحمة الله، لما أمكن اللعن حتى للنواة، إلا على طريقة بعض الصوفية، الذين يقولون: إن اللعن هنا من باب التخويف، وليس من باب الحقيقة، وإلا لو لحق اللعن، ولو لواحد، فإنه يكون قد أبعد عن رحمة الله مطلقاً، وليس له أدنى حظ من الرحمة.
ومن هنا فسروا اللعن المذكور في النوع بأنه ليس على الحقيقة، وإنما هو من باب الزجر والتخويف.
وهذا ليس بصحيح.
بل كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: (ما من وعيد ذكر في القرآن أو في السنة إلا وله حقيقة، وما من وعد ذكر في القرآن أو في السنة إلا وله حقيقة).
وقال رحمه الله: (ومع أن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم -فيما جاء في الكتاب والسنة- قد تحقق من قولهما أن أهل الكبائر تحت مشيئة الله؛ ولكن هذه المشيئة وإن كانت غير مقيدة في القرآن إلا أنه لما جاء ذكر وعيده ولعنه وغضبه سبحانه وتعالى لجملة الفساق علم أن المغفرة المحضة لا تلحقهم).
ولهذا كان من إجماعات أهل السنة والجماعة في أهل الكبائر: أن قوماً منهم يعذبون، وقوماً منهم يغفر لهم، ولم يقل أحد من السلف: إن جميع أهل الكبائر قد يغفر لهم، بل أجمعوا على أن قدراً منهم يعذبون، وهذا صريح في نصوص الشفاعة، وهذا هو تحقيق الوعيد، وغفرانه سبحانه وتعالى لجملة منهم هو تحقيق الوعد.
فإذاً: قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:٤٨] هذا وعد، والوعد والوعيد كثيرٌ في القرآن، فكل وعد أو وعيد لا بد له من حقيقة، ولا يمكن أن يكون المقصود به مجرد التخويف.
ولكن لما قال بعض أئمة السنة المتقدمين في بعض نصوص الوعيد: إنها على ظاهرها، أو قالوا جملة نحو ذلك، ظن بعض المتأخرين أن مقصود السلف أنها لا حقيقة لها، وإنما يقصد منها مجرد التخويف.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (ومن فسر قول بعض المتقدمين من السلف بهذا، فهذا حقيقته أنه لم يفقه قول الله ورسوله، ولم يقدر قول السلف حق قدره، بل ليس في الكتاب ولا في السنة وعيد إلا وله حقيقة)، وأما مجرد التخويف الذي معناه أنه لا حقيقة له، فيُنَزَّه الباري سبحانه وتعالى عنه، لأن حقيقته الوهم، ولا يمكن أن يتأثر مخاطب إذا عرف أن هذا الوعيد ليس له حقيقة.
وليس معنى هذا أن كل وعيد مطلق يلزم كل معين، فإننا نعلم أن الله يغفر لقوم من أهل الربا، وقوم من أهل الزنا، وقوم من أهل الخمر، ومن أهل السرقة، إلى غير ذلك، ومغفرته سبحانه وتعالى قد تكون بتوبة، وقد تكون بحسنات ماحية، وقد تكون بمصائب مكفرة، وقد تكون بدعاء.
والإمام ابن تيمية ذكر عشرة أسباب مسقطة للوعيد والعقوبة: التوبة واحد منها.
إذاً: كأن من الوهم أن يقال: اللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله بإطلاق، وهذا التفسير ورد في كلام المفسرين كثيراً، وحُكِي حتى عن بعض المتقدمين، وهذا الإطلاق فيه نظر؛ لأن الله لعن بعض الفساق ومعهم أصل الإيمان، فليس المقصود من لعنهم: الطرد والإبعاد المطلق عن رحمته.
إذاً: ليس الموجب لعدم لعن المعين أن اللعن هو: الطرد والإبعاد المطلق، بل الموجب ما تقدم من التأسي، وما فيه من الإغلاق أو الجزم.