[القسم الثاني: بدع منقولة]
القسم الثاني: بدعٌ ليس عليها أثارة من هدي الرسالة، بل هي بدع منقولة، وإن كان أصحابها لما نقلوها بما يظهرونه وينتسبون به إلى الإسلام استعملوا معها جملاً من جمل القرآن الكلية.
وبهذا يتبين أن البدع المخالفة ليست وجهاً واحداً، وهذا يقودنا بعد ذلك إلى مسألة أحكامها.
فمن القسم الثاني -وهي البدع المنقولة- بدعة الشيعة المؤلهة لـ علي بن أبي طالب، فإن هذه البدعة لا يجوز ولا يعقل أن يقال: قد اشتبه عليهم هذا الأمر؛ فهؤلاء ليسوا مسلمين، ولا هم من الإسلام ولا من اليهودية ولا من النصرانية في شيء؛ بل هم قومٌ نقلوا بدعتهم هذه من أحد المذاهب الفلسفية التناسخية الموجودة في بلاد فارس والهند، وهي موجودة إلى الآن في بلاد الهند، ولهذا ترى أن أصحابها ممن يميلون إلى هذا المذهب ينتحلون مثل هذا القول.
ومسألة تناسخ الأرواح نظرية مغرقة في التاريخ عند كثير من أهل المشرق من عبدة الأوثان الغالين في شركهم ووثنيتهم.
ومن البدع المنقولة التي ظهرت: بدعة القدرية الغلاة، الذين قالوا: إن الله سبحانه لا يعلم أفعال العباد إلا عند كونها، فلم يثبتوا العلم السابق، ومن لم يثبت العلم السابق فليس من الإسلام في شيء، وهذه البدعةٌ بدعة منقولة، كان عليها طائفة من فلاسفة اليونان، تكلموا في مسألة الواحد الأول، وهل المعدوم يمكن العلم به أو لا يمكن العلم به، وقالوا: إن المعدوم شيء لا يمكن العلم به.
والمقصود أن بدعة القدرية الغالية هي من بدع الزنادقة المحضة، وأصحابها كفار بإجماع أهل السنة والجماعة، بل وبإجماع المسلمين حتى القدرية منهم، وهذا من طريف الحال، فإن أئمة القدرية من غير الغلاة هم المعتزلة، ومع ذلك فإن أئمة المعتزلة كالقاضي عبد الجبار في كتبه يصرح بأن القدرية الغالية -أي: الذين ينكرون علم الرب بما سيكون- كفار، وأن الملة بريئة منهم.
ومن البدع المنقولة بدعة نفي الصفات، وهي أكثر هذه البدع إشكالاً لكونها اختلطت على كثير من القاصدين إلى السنة وإلى الحق، فبدعة تأليه علي بن أبي طالب، وبدعة القدرية الغلاة لم تشكل على أحد، فلم ينتحلها إلا الزنادقة، ولكن بدعة نفي الصفات تختلف عنهما؛ باعتبار أن شأنها اشتبه على كثير من الطوائف فيما بعد، فدخلت على بعض من لا يصح أن يضاف إلى الزندقة والإلحاد.
هذه البدعة لا أصل لها في كتاب الله ولا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بل لا أصل لها حتى في العقل، وإنما هي نظرية منقولة، نقلها أئمة النظار الذين حدثوا في الدولة الإسلامية الأموية إذ ذاك، وهي نظرية منقولة من الفلسفة اليونانية، وبخاصة فلسفة أرسطو طاليس، فإن فلسفته تنتهي إلى نفس الطريقة التي يذكرها الجهم والجعد، ومن بعدهم أبو هذيل العلاف وإبراهيم بن سيار النظام وأمثال هؤلاء من أئمة النظر من الجهمية والمعتزلة.
ومن هنا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (درء تعارض العقل والنقل): (إن سائر البدع التي حدثت بين أهل القبلة يقع عند أصحابها استدلالٌ بالكتاب والسنة واشتباه في بعض مواردها، إلا بدعة الجهمية، ولهذا كان من فقه بعض المتقدمين من السلف -كـ ابن المبارك - أنهم يخرجون الجهمية عن أهل القبلة).
وهذا لا يلزم منه أن عبد الله بن المبارك رحمه الله يرى أن كل من وقع له قول من أقوال الجهمية وقال به أنه لا يضاف إلى أهل القبلة، بل هذا من تحقيقه أن هذه البدعة بدعةٌ دخلت على المسلمين من مذهب وثني كافر بمسائل الربوبية، فضلاً عن الألوهية.
ولهذا لما جاء من صرح بمسائل نفي الصفات -وهو ابن سينا وأبو نصر الفارابي - بعد أن كان المتكلمون يجملون هذا القول ولا يصرحون بالانتساب لأئمة الفلاسفة اليونان، لما جاء المصرحون بهذا المذهب في القرن الرابع وما بعده -ومنهم أبو الوليد ابن رشد مع فقهه وانتسابه للشريعة، لكنه انتحل طريقة الفلسفة المحضة- صرحوا بأن نفي الصفات على هذه الطريقة التجريدية هي الطريقة التي كان يذكرها أرسطو في كتبه.
إذاً هذا مذهب منقول؛ وكأن هذا من التعليق على ما سبق القول فيه في مسألة فهم السلف الصالح، حين قلنا: إن هذا القيد قيد حسن بياني، لكن من قال: إنه على الكتاب والسنة، وقد عرف عنه أنه من أصحاب السنة والجماعة لا يستدرك عليه، ولا يقال: إنه لم يذكر الجملة الثالثة وهي فهم السلف الصالح، إلا إذا كان المقام يستوجب ذلك، كالبيان في مقام خاص أو كان القائل لهذا الكلام يعرف عنه إسقاط فهم السلف أو إسقاط الإجماع.
فإننا لو استدركنا هذا الاستدراك لاستدركنا على جمهور الأئمة المتقدمين، فإنه يقع في كلامهم أن طريقتهم هي الأخذ بالسنة، وتارة يصرحون بمسألة الإجماع، وتارة يسكتون عنها؛ لأن ثمة تلازماً، فإن من قال: إنه على الكتاب، فإنه إن لم يعتبر السنة فإنه لم يعتبر الكتاب، كما قال الله عن المشركين: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ} [آل عمران:٣١] والنبي صلى الله عليه وسلم وهو في خطبة الوداع التي شهدها الخاصة والعامة يقول: (وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به لن تضلوا بعده: كتاب الله) ولا يصح لأحد أن يقول: لماذا لم تذكر السنة؟ ومثله إذا قيل: الكتاب والسنة ..
وهلم جراً.
فهذا الذكر لفهم السلف الصالح ذكر شريف، لكنه من الأمور البيانية التي لا تلزم إلا إذا قام موجبها.
القصد: أن بدعة نفي الصفات بدعة منقولة؛ ولهذا يتعامل معها على أنها من منكر القول وزوره.