[الفطرة تدل على عامة الأصول الشرعية أو تقتضيها]
عامة الأصول الشرعية: إما أن تدل عليها الفطرة أو تقتضيها، وفرق بين الجهتين:
الجهة الأولى: أن تكون الفطرة دلت على طلب هذا الأصل.
الجهة الثانية: أن تكون الفطرة دلت على قبوله عند طلب الشارع له؛ بمعنى أن الفطرة تقتضيه.
ولهذا عامة التشريع تقتضي الفطرة طلبه ابتداءً أو تقتضي قبوله عند طلبه، ولا تنافيه، لكن الفطرة ابتداء لا تعين تفصيل مسائل الشريعة، فالفطرة لا يمكن أن تعين أن الصلوات خمس، وأن صلاة الضحى ركعتان إلى ثمان، وأن الظهر أربع .. إلخ.
الفطرة تقتضي وتطلب التعبد لله كجملة، الخضوع لله كجملة، العدل كجملة، لكن تفاصيل مسائل العدل المالية لا تتوصل إليها الفطرة قبل ورود الشرع.
إذاً الفطرة هي معاني كلية من هذا الوجه، إما أنها تقتضي الطلب، كاقتضاء الفطرة للتوحيد، وكل الأصول الكلية من الدين كالتوحيد تدل عليها الفطرة طلباً، أي أن الفطرة ترغب في تحصيلها، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (كل مولود يولد على الفطرة) وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الأعراف:١٧٢]، وقد تكون الفطرة دون درجة الطلب، ولكنها تقتضي الموافقة عند وجود الشيء تشريعاً أو خبراً.
هذا ما يتعلق بذات الفطرة، وعليه ندرك أن التوحيد -توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات- تدل عليه الفطرة، ولا يصح أن يقال: إن الفطرة لا تدل إلا على توحيد الربوبية، فهذا الكلام غلط شديد، بل الفطرة تدل على توحيد الله، وتوحيد الله سبحانه -كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله- معرفته وعبادته، فإن قيل: التوحيد هو العبادة، قيل: هذا ممتنع؛ لأن عبادة من لا يعرف ممتنعة، ولا يمكن أن يعبد شخص ما لا يعرفه، حتى الذين يعبدون الأصنام يعرفونها كأصنام، ومن يعبد رجلاً صالحاً عنده عنه معرفة، وقد تكون هذه المعرفة فيها غلط، لكن عنده معرفة معينة، عنده إدراك معين، حتى من يعبد عيسى عليه الصلاة والسلام عنده معرفة معينة، قد تكون هذه المعرفة فيها ضلال، ادعى أن فيه ألوهية أو ما إلى ذلك، لكن لديه مدركاً عن معبوده؛ بمعنى أن عبادة غير المدرك ممتنعة عقلاً، لا يمكن أن يعبد أحد من لا يعرف، لكن إما أن تكون المعرفة صحيحة أو غير صحيحة، ناقصة أو غير ناقصة، فهذه مسألة أخرى.
فتوحيد الله هو معنىً كلي واحد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (توحيد الله معرفته وعبادته)، وإنما قسم أهل العلم رحمهم الله التوحيد إلى هذه الأقسام الثلاثة، أو إلى توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الإرادة والقصد من باب التراتيب العلمية.
ولهذا يقال: إن توحيد الله سبحانه وتعالى -سواء كان جهة ربوبيته أو جهة ألوهيته أو جهة أسمائه وصفاته- هو من حيث أصله الكلي ثابت بالفطرة.
ولا يجوز أن يقال: إن توحيد الربوبية وحده فطري، وتوحيد الألوهية والعبادة تشريعي.
وأحياناً يستشكل البعض هذا، ويقول: إن الرسل بعثوا بتوحيد الألوهية.
فأقول: نعم، حتى لو بعثوا بتوحيد الألوهية، لا يمنع ذلك أن أصله فطري؛ فإن الرسل بعثوا مع كون أصل الألوهية فطرياً من أجل أمرين:
الأمر الأول: درء الشرك الذي طرأ على التوحيد، أي: إبعاد الناس عن عبادة غير الله، ولهذا أول الرسل إلى الأرض نوح عليه الصلاة والسلام، ولم يحتج الناس قبل نوح إلى رسول، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (كان بين آدم ونوح عشرة قرون على التوحيد) لأن ثمة إقراراً وإفراداً لله بالعبادة.
الأمر الثاني: من أجل تفصيل التوحيد؛ لأنا لا نقول: إن توحيد الألوهية بمفصله فطري، فقد تقدم أن الفطرة لا تدرك المفصلات، وإنما المفصل يدرك من الوحي، قال الله تعالى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} [الشورى:٥٢] الصلوات الخمس من توحيد الألوهية، لأنها قيام لله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:٢٣٨] ولأنها سجود لله، ولأنها ركوع لله، ولأنها دعاء لله .. إلخ.
والرسول عليه الصلاة والسلام أو غيره لا يمكن بفطرته أن يدرك الصلوات الخمس: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى:١٣]، {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى:٢١] من ادعى تشريعاً قبل الوحي فهو مدعٍ على الله سبحانه وتعالى.
إذاً تفصيل الألوهية شرعي، بخلاف أصلها الكلي فهو فطري، هذا هو الحق، كذلك الربوبية، وإن كان الإدراك الفطري في مقاماتها أكثر من الألوهية، إلا أن بعض مقامات الربوبية شرعي، فعندنا من ربوبية الله أنه ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، وفي هذا معنى من ربوبيته.
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية وأمثاله يقولون: توحيد المعرفة، وتوحيد الطلب، فيجعلون الربوبية والأسماء والصفات جهة واحدة، وجاء من بعدهم أو من قبلهم فقسموا التوحيد إلى ثلاثة أقسام، لأن الجهة التي حصل فيها شقاق من بعض أهل البدع -وهي من ربوبية الله- هي مسألة الأسماء والصفات، وخصوها لاختصاصها عند السلف، وهذا كله ترتيب علمي لا بأس به، لكن لا ينبغي أن يعطى أكثر من حقه.
إذاً: نزول الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا الذي حدث به الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في المتفق عليه عن أبي هريرة - هو من معاني ربوبية الله، وهو أمر لم ندركه بالفطرة، بل أخبر به الرسول، ولما أخبر به قبلته الفطرة؛ لأنه كمال من كمال الله، والفطرة أصلها مبني على الإقرار بكمال الله كأصل كلي.
وحتى لو رجعنا إلى التقسيم الثلاثي، وأخذنا موضوع الربوبية على معناه الخاص، فهناك مسائل هي داخلة في الربوبية، كتفاصيل أفعال الله وقضاء الله وقدر الله، ومع ذلك لا تعرف إلا بإخبار الرسل، ولا يستطيع أحد أن يعرف قبل إخبار الرسول عليه الصلاة والسلام أن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات بخمسين ألف سنة، فهذا مما لا تعلمه الفطرة، بل الكتابة ليست أصلاً ضرورياً لكمال الله سبحانه وتعالى لولا أن الرسل حدثت بها، بخلاف علمه سبحانه وتعالى؛ فإن معرفة أن الله سبحانه بكل شيء عليم تدركه الفطرة، لكنها لا تدرك تفاصيل الكتابة أن الله كتب وأنه يرسل الملك، الفطرة تقبلها نعم، ولا تعارض شيئاً مما جاءت به الشرائع، لا خبراً ولا تشريعاً.
والمقصود أن التوحيد -سواء كان جهة الربوبية أو الأسماء والصفات أو الألوهية- كله فطري من حيث أصوله، وإن كان مقام الربوبية أظهر في تفصيل الفطرة من مقام الألوهية عند عامة الخلق، ليس في نفسه، وإنما عند عامة الخلق، لأن ضلال الناس في باب الألوهية أكثر من ضلالهم في باب الربوبية، وهذا أمر لا جدل حوله، فمشركو العرب جهة ضلالهم أكثر في الألوهية، ولهذا بعث الله الرسل يدعون إلى توحيده أي إفراده بالعبادة، لأن أصل الربوبية مُسلّم عند عامة الناس، لكن لا يفهم من هذا أن مشركي العرب أو غيرهم كانوا محققين للربوبية.
ليس هناك أمة مشركة تحقق ربوبية الله أبداً، هذا ممتنع عقلاً وشرعاً؛ لأن كل من يعبد الأصنام، كمشركي العرب أو قوم هود أو قوم صالح، وكل من يعبدون غير الله سبحانه وتعالى، كل هؤلاء يعتقدون في معبوداتهم أنها تجلب كشف الكربات، وقضاء الحاجات، وأنها تنفع وأنها تضر، وهم يستسقون بها، ويستشفون بها، ويسألونها رد الغائب وشفاء المريض، مع أن مسألة رد الغائب، وشفاء المريض وكشف الكربة وقضاء الحاجة.
واعتقاد النفع والضر هي من معاني ربوبية الله عز وجل.
إذاً هم صرفوا قدراً من ربوبية الله لغيره، لكن في باب آخر، وهو المذكور في قول الله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:٩]، {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:٨٧] لا شك أنهم في هذا الأصل يقرون، أن الله هو الخالق وأنه الرازق.
إذا قال قائل: إنهم لا يعتقدون في معبوداتهم أنها تنفع وتضر بذاتها، وإنما هي وسيلة، قيل: وحتى في عبادتها، فإنهم قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:٣] فحتى في باب الألوهية، يشركونها مع الله: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) ولهذا كان المشركون في طوافهم يقولون: (لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك).
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية والشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله أن مسألة الربوبية عامة بني آدم يقرون بها، لظهورها من جهة الفطرة عند المسلمين وغير المسلمين، لكن الإقرار ليس هو التحقيق، بل التحقيق: أن من حقق الربوبية أقر بالألوهية، وهذه هي طريقة القرآن، والله ما أخبر عن المشركين، بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) من باب امتداحهم، إنما من باب إلزامهم، أن هذا الحق المجمل الذي عندكم -وهو الإيمان بأن الله هو الخالق- يستلزم التحقيق.
وتحقيق هذا الإيمان المجمل في الربوبية يكون بتقرير الألوهية، ولهذا لا ترى أحداً حقق ربوبية الله سبحانه وتعالى تحقيقاً تاماً إلا ولزمه أن يؤمن بألوهيته سبحانه وتعالى.
وأحياناً يخطئ بعض طلبة العلم فيقول: إن توحيد الربوبية وحده هو الفطري، بخلاف توحيد الألوهية، ولذلك بعثت له الرسل.
نعم بعثت الرسل لتوحيد الألوهية، لكن لا يعني هذا أن أصله ليس فطرياً، قال صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة).
ألسنا نقول الآن: إن عامة الأمم تقر بالربوبية، وقد قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فأبواه يهودانه)، إذا نقلاه عن الفطرة باليهوديه، مع أن اليهودي يقرون بالربوبية، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، وفي لفظ: (أو يشركانه) أي: يقودانه إلى الشرك، وهو كذلك، حتى