[علو الله على خلقه ومعيته لهم بعلمه والأدلة على ذلك]
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فصل: وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه عليٌّ على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:٤].].
بعد أن أجمل المصنف رحمه الله أصول السلف أهل السنة والجماعة دخل بعد ذلك في ذكر مفصل جملة من مسائلها، فقال: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله: الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله: (قد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله) هذا عود على مقدمة المصنف في أول رسالته، فحين قال: (أما بعد ..
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية الطائفة المنصور إلى قيام الساعة أهل السنة والجماعة)، قال: (وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)، فجعل المسائل التي عرض لتفصيلها بعد ذلك متضمنة في الأصول الأولى التي أجملها، وهي الأصول التي ذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وفي الجملة: أن عامة المسائل التي يفصلها المصنف من هذه الجملة إلى آخر الرسالة، لك أن تقول أنها داخل في الإيمان بالله، ولك أن تقول: إنها داخلة في الإيمان بالرسل، ولك تقول: إنها داخلة في الإيمان بالكتب إلى غير ذلك، وهذا باعتبار الدلالات المعروفة في الكلام، وهي ثلاث: (دلالة مطابقة، أو دلالة تضمن، أو دلالة التلازم).
فالإيمان بالعلو يُقال: (دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله) لأنه صفة من صفاته، وهو كذلك إيمان بالكتب، لأنه مذكور في الكتب السماوية، وهو كذلك إيمان بالرسل، لأن الرسل حدثوا قومهم بأن الله في السماء.
ولك أن تقول: وهو إيمان بالملائكة من جهة اللزوم، من جهة أن الوحي إنما جاء به ملك، فمن لزوم الإيمان بالملك الإيمان بتصديقه، وأن من تصديقه الإيمان بصدق ما أوحاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم من رب العالمين سبحانه وتعالى، فهذا باب واسع.
ولهذا لا عجب أن المصنف في مسألة يقول: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله) وفي مسألة بعدها يقول: (وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله وملائكته ورسله)، فهذا كله مبني على مسألة الدلالات، وفيها سعة عند اعتبارها، ولا سيما إذا اعتبرت دلالة التناسب.
وأول مسألة ذكرها المصنف هنا هي مسألة العلو، وهذا باعتبار أن هذا الأصل -وهو صفات الله سبحانه وتعالى- هو أشرف الأصول التي ذكرها في رسالته، فإنه ذكر في رسالته جملة من الأصول، كأنه أجملها في قوله: (وهم وسط في باب صفات الله ...)، (وهم وسط في باب أفعال الله ...) فأشرف الأصول التي ذكرها ما يتعلق بالصفات، وقد درج كثير من السلف -بل وكثير من متكلمة أهل الإثبات- على العناية بتقرير مسألة العلو، وأعني بمتكلمة أهل الإثبات من يثبت العلو من متكلمة الصفاتية، كـ عبد الله ابن كلاب والأشعري وأمثالهم.
وإنما درجوا على ذلك، لأن هذه المسألة -أعني مسألة علو الله سبحانه وتعالى- تعد أصلاً في هذا الباب عند سائر الطوائف، فبثبوتها يلزم ثبوت جملة من الصفات، عند أهل الإثبات من السلف، وفضلاء متكلمة الصفاتية، كـ ابن كلاب والأشعري، وبنفيها عند النفاة كالجهمية والمعتزلة ومتأخري الأشاعرة، نفوا جملاً كثيرة من الصفات.
ولهذا تعد مسألة العلو أصلاً، باعتبار أن إثباتها يستلزم إثبات جملة من الصفات، وأن نفيها عند من نفاها يستلزم نفي جملة من الصفات، ولهذا هي موجبة طرداً وعكساً، حسب المذاهب التي ظهرت عند طوائف من أهل القبلة في هذا الباب، ولهذا عُني السلف بها من هذا الوجه.
ومن جهة أخرى: قدم المصنف هذه المسألة لما لها من الشرف في كتاب الله سبحانه وتعالى من جهة تفصيلها، فإن علو الله فصل في القرآن تارةً بأنه في السماء، كقوله تعالى: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك:١٦] وتارةً بذكر فوقيته تعالى كقوله سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:١٨] وتارةً بذكر علوه كقوله سبحانه: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى:١] وتارةً بصعود الأشياء إليه أو بعروجها إليه أو بالنزول منه
إلى غير ذلك.
وهذا المذهب هو الذي تقتضيه الفطرة والعقل والشرع، فنقول: إن مسألة العلو -ومحصلها أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه بائن من خلقه- دليلها وشاهدها الفطرة والعقل والشرع، واعتبار الدلالات العلمية، وهي من أهم المسائل التي حصل فيها غلط.
ولك أن تقول: إن أكثر غلط المتكلمين في مسائل الإلهيات والمعرفة عموماً هو فرع أو لازمٌ عن غلطهم في فقه الدلالات، ولهذا يجب التنبيه على هذا النوع من الدلالات، خاصة أن الغلط فيها لم يقتصر على المتكلمين أو قدماء المتكلمين، بل دخل على متكلمة أهل الإثبات، وبعض المتأخرين من أصحاب السنة.