[الإمساك عما شجر بين الصحابة]
[ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويقولون: إن هذه الآثار المروية في مساوئهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه].
الإمساك عما شجر بين الصحابة سنة من سنن السلف، لكن هذا لا يمنع ذكر الحقائق الكلية المنضبطة.
من الحقائق الكلية التي أريد أن أشير إليها تمثيلاً لا استقصاءً: أن علياً أولى بالحق من معاوية ..
هذه حقيقة كلية منضبطة لا تنافي الإمساك، وذكر قوله صلى الله عليه وسلم: (أن عماراً تقتله الفئة الباغية)، لا ينافي لزوم الإمساك، فمثل هذه الحقائق لا بد من ضبطها في فقه الشجار والنزاع الذي حصل بين الصحابة.
أما إذا فُسِّر الإمساك بأنه السكوت وعدم قول أي كلمة، فهذا غلط مخالف للنص والإجماع، فإن النص قال: (تقتل عماراً الفئة الباغية) وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مروق الخوارج فقال: (تقتلهم أولى الطائفتين بالحق)، فظهر منه أن علياً أولى بالحق.
إذاً الحقائق الكلية المنضبطة عند السلف لا تنافي الإمساك.
[والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون، وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم].
وهذا المعنى: أن كل من كان محققاً للإيمان يغفر له ما لا يغفر لغيره حصله المصنف من قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:١١٤].
[لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم خير القرون، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بعدهم.
ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه أو غفر له بفضل سابقته أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفِّر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف الأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور؟!
ثم إن القدر الذي يذكر من فعل بعضهم قليل، نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم: من الإيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيله والهجرة والنصرة والعلم النافع والعمل الصالح، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما منَّ الله عليهم به من الفضائل، علم يقيناً أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم وأكرمها على الله].
لا نزيد عليه رحمه الله في هذا التقرير منه لدرجة الصحابة ومنزلتهم، وما قد وقع من بعضهم أو ما نقل عن بعضهم من بعض التقصير أو ما إلى ذلك، فإن هذا قد زيد فيه ونقص، وما ثبت منه قد يكون من باب الاجتهاد، وإذا بلغ المنتهى وكان من باب المعصية، فإن لهم من الحسنات والتوبة والجهاد وما إلى ذلك ما يوجب التكفير، ولما حصل لهم من الاصطفاء الإلهي في رضا الله سبحانه وتعالى عنهم.