[الإيمان بما يكون في يوم القيامة من بعث ونشور ووزن للأعمال]
قال المصنف رحمه الله: [وتقوم القيامة التي أخبر بها الله في كتابه وعلى لسان رسوله وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غرلاً، وتدنو منهم الشمس، ويلجمهم العرق، فتنصب الموازين، فتوزن بها أعمال العباد، {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:١٠٢ - ١٠٣]].
هذه مسألة القيامة، وهي كما ذكر المصنف مجمع عليها بين المسلمين، ولكن ثمة معنى، أنه ما من أصل أجمع المسلمون عليه إلا وترى في كلام أئمة السنة والجماعة -وأخصهم الصحابة رضي الله عنهم- من الفقه والعلم في هذا الأصل ما لا يقع لغيرهم، فيكون لهم الاختصاص من هذا الوجه، حتى في الأصول المتفق عليها؛ من جهة سعة العلم والفقه في هذه الأصول، وإن كان غيرهم قد يوافقهم عليها، فالقيامة محل إجماع بين سائر طوائف المسلمين، لم يختلف أحد منهم عليها.
وذكر المصنف أن الناس يقومون من قبورهم حفاةً عراة، هذا كما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم.
(وتنصب الموازين) والموازين ثابتة بالإجماع: وهي في قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:٤٧] فالموازنة ثابتة بالإجماع.
وأما قوله: (فأما من ثقلت موازينه)، فهذا مذكور في القرآن في غير مقام في سورة القارعة والمؤمنون والأعراف، وهذا المقصود به الإيمان والكفر، وسياقها في القرآن على الإيمان والكفر، ولا يعني هذا أن من كان مسلماً عاصياً لا يكون له موازنة، بل يدخل في عموم الموازنة، وإنما المقصود التنبيه على ما ذكره ابن حزم وابن القيم من أن عصاة الموحدين توزن أعمالهم، وابن القيم ناقل عن ابن حزم في المسألة، يقول ابن حزم: بالنسبة لعصاة الموحدين وأهل الكبائر من المسلمين- من زادت حسناته على سيئاته بواحدة، فهذا لا يعذب، بل يدخل الجنة ابتداءً، ومن زادت سيئاته على حسناته بواحدة، فلا بد أن يعذب بقدر ما يشاء الله من العذاب، قال: ومن تساوت حسناته مع سيئاته، فهذا لا يعذب، ولا يدخل الجنة ابتداءً بل يحبس عن الجنة زمناً ثم يمكن من دخولها.
وهذا التفصيل قال عنه الإمام ابن القيم رحمه الله: إنه مذهب الصحابة والتابعين، وأن خلافه قول المرجئة، والصواب: أنه ليس مذهباً للصحابة والتابعين، بل هو تفصيل لقول مجمل من أقوال الصحابة، وإنما الذي عليه الصحابة والتابعون -وهو صريح القرآن- هو الإيمان بالموازنة كما قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:٤٧] أما كيف تكون هذه الموازنة؟ فالكيفية في حق عصاة الموحدين لم تنطق به النصوص المفصلة، إنما نؤمن بأن الله سبحانه لا يظلم مثقال ذرة، ونؤمن بقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه} [الزلزلة:٧ - ٨] أما أن يقال: إن من زادت سيئاته على حسناته واحدة، من المسلمين فإنه يعذب في النار جزماً، فهذا قول لا أحد يستطيع أن يقوله، ومن الذي أدراك أنه لا بد أن يعذب؟! والله سبحانه وتعالى واسع الرحمة وواسع المغفرة، وقد يغفر الله له هذه السيئة الواحدة التي زادت، فكيف تجزم له بالعذاب، فهذا ليس بصحيح؛ أين عفو الله؟ ومن الذي يستطيع أن يجزم بهذا الكلام؟ لو كانت النصوص نطقت به لقلنا: قضاء الله وقدره، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ} [يونس:١١] أما والنصوص لم تنطق بشيء من ذلك، فهذا لا يجوز الجزم به، وإن ذكره ابن القيم رحمه الله، فهو نقله عن ابن حزم، ولكن ابن القيم زاده تقريراً، وقال: هذا مذهب الصحابة، وهو عن جابر بن عبد الله وابن مسعود، وابن عباس في تفسير آية الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} [الأعراف:٤٦].
وهذه مسألة أخرى: أن من تساوت حسناته مع سيئاته من أهل الإسلام يحبسون عن الجنة ولا يعذبون، لا يعذبون لأن سيئاتهم لم تزد، ولا يدخلون ابتداءً لأن حسناتهم لم تزد، فقالوا: يحبسون، وما أدراك أنهم يحبسون؟! وأما القول بأنهم ذُكِروا في قوله تعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:٤٦] فالذين في سورة الأعراف ليس في القرآن إلا أنهم رجال، أما ماهيتهم، فقد قال كثير من السلف: إنهم قوم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، ولكن هذا القول لم يصح عن صحابي واحد، وإنما هو مذكور عن التابعين ومن بعدهم، وهو فقه في القرآن ليس صواباً، والأصوب التوقف، وأن يقال: الله أعلم بهم.
إنما هم رجال كما قال القرآن رداً لقول أبي مجلز بأنهم ملائكة، وليس صواباً؛ لأن القرآن يقول: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ) فهم رجال، ولهذا من فقه ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسيره للآية أنه سرد الأقوال، ونقل عن ابن عباس وعن ابن مسعود وعن جابر بن عبد الله: أن أهل الأعراف رجال تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، ولكن الأسانيد المذكورة معلولة من جهة الانقطاع وجهات أخرى، وأنت تعرف أن ابن جرير عنده قاعدة في تفسيره: أنه إذا كانت الآية في تفسيرها خلاف، وللصحابة قول ولمن بعدهم قول، فإنه -كقاعدة مطردة لا تنخرم أبداً عند ابن جرير - يأخذ بمذهب الصحابي، إلا إذا اختلف الصحابة، فـ ابن جرير في هذه المرة مع أنه نقل عن بعض الصحابة أنه تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، ونقل أقوالاً أخرى قد تختلف عنها عن غيرهم، رجع في آخر بحثه للمسألة، وأبطل قول أبي مجلز أنهم ملائكة قال: لأن القرآن يقول رجال، ثم رأى ابن جرير التوقف في المسألة: من هم أصحاب الأعراف؟ الله أعلم.
وهذا هو الإيمان، وهذا هو الفقه أن يقال: الله أعلم بهم.
وهنا تنبيه: أحكام الله تنقسم إلى قسمين: أخبار وتشريع، فالتشريع يتفقه فيه، لأنها أحكام نوازل المسلمين والحالات الخاصة التي تطرأ.
مثلاً: التيمم، ما فيه من حديث لا يصل إلى عشرة أحاديث ربما، وسجود السهو مداره على ستة أو سبعة أحاديث، لكن صور التيمم التي تطرأ لآحاد الناس قد لا تتناهى، كل إنسان عنده صورة، هنا يكون الفقه في هذه النصوص، فنصوص الأمر والنهي يتفقه فيها، فيخرج كثير من الصور من نص عام، لكن نصوص الأخبار تؤخذ على ظاهرها وتتدبر من باب تحقيق الإيمان بها، لا من باب التشقيق منها.
إذاً لما قال الله سبحانه وتعالى: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ} [الأعراف:٤٦] لماذا تأخروا وهم رجال؟ جاء مورد العقل هنا ومورد التفقه، فقال: لأنهم تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، وهذا ليس بلازم، لأنه يمكن عقلاً أن الله جعل ذلك عقوبتهم، لأنهم عصاة ما تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، بل زادت سيئاتهم، ولم يعذبهم في النار، بل حبسهم عن الجنة ألا يمكن هذا؟ يمكن، لكن لا نقول به، إنما نقول: الله أعلم؛ لأن مسألة تسمية الأشياء حكمة الله سبحانه وتعالى في عدم التبليغ للناس، الناس يتفقهون في شيء الله سبحانه لم يرد أن يخبرهم به.
المنافقون لن تجدوا أن الله سماهم في القرآن، ولا الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من تسميتهم، وحتى الرسول عليه الصلاة والسلام بعد فضح القرآن لهم، غاب عنه كثيرٌ من أعيانهم وأشخاصهم، وقال الله له: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} [التوبة:١٠١]، ما سماهم القرآن ولا حتى الرسول يعرفهم، ويعرف طرفاً منهم، ولم يخبر بهم جميع الصحابة، وقد قال الله له في القرآن: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} [محمد:٣٠] ليس أن يعرف فلاناً أنه قد يوجد في بادية كذا، قال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد:٣٠] لو شاء الله لأراهم، ولعينهم له بالتسمية، ولدله عليهم، وإنما جعلت ثمة قرائن، حتى لا يتغلغل المنافقون في أهل الإسلام وأهل الإيمان وهم يعرفونهم، قال: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد:٣٠] ولهذا قال: (آية المنافق ثلاث) وفي حديث أبي هريرة: (وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم)، فدائماً نؤكد أن السلف عليهم رحمة الله، من فقههم ما يرون التشقيق في هذا، ولا يعجب أحد، فيقول: إنه نجد في كلام ما يروى عن بعض الصحابة.
أولاً: ما في كتب التفسير كثير من الأسانيد قد لا تنضبط إلى الصحابة، ثم إن بعض الصحابة أخذ عن بني إسرائيل ولا سيما المتأخرين، كـ عبد الله بن عمرو عنده رواية عن بني إسرائيل، واعتبرها بقول الرسول عليه الصلاة والسلام: (لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم) وبقوله: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج) فالقصد أن هذا القول الذي ذكره ابن القيم وابن حزم، لا نقول: إنه باطل، لأننا لا نعلم انتفاءه، وإنما نقول: إنه غلط من جهة كونه تفصيلاً لشيء لم يفصل في النصوص، قد يكون الأمر في نفس الأمر كذلك، لكن الله أعلم بأهل الكبائر، إنما {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:٤٧]، {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:٤٩]، {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} [الزلزلة:٧] إنما: رحمة الله سبقت غضبه، إلى غير ذلك مما نطق به القرآن