[مسألة تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد]
تقسيم السنة إلى متواتر وآحاد هو تقسيم وارد في الكتب المتأخرة لعلم مصطلح الحديث.
وقد وقع في كلام بعض المتقدمين كالإمام الشافعي رحمه الله ذكر متواتر السنة، ولكن التقسيم الذي وجد في كتب أصول الفقه ودخل على كتب المصطلح المتأخرة هو تقسيم باعتبار حده لا أصل له.
ذلك أنهم يقولون في حد المتواتر: هو ما رواه جماعةٌ عن جماعةٍ يستحيل تواطؤهم على الكذب.
واختلفوا في هؤلاء الجماعة كم يكون عددهم، لكن جمهور ما يذكرونه يقارب العشرة، فعلى قولهم: لا يكون الحديث متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا إذا رواه عنه من الصحابة عشرة، ورواه عن كل واحد من العشرة عشرة، إما من صغار الصحابة وإما من التابعين، ورواه عن كل واحد من هؤلاء المائة عشرة بحيث يصل العدد إلى ألف.
والسوء في هذا الحد في نتيجته أيضاً، فإنهم قالوا: إن الاعتقاد لا يحتج فيه إلا بمتواتر.
وهذا الكلام الذي وضعه أئمة النظار من المعتزلة ومتكلمة الصفاتية، حقيقته إبعادٌ للسنة في الجملة عن الاستدلال في مسائل أصول الدين ..
فإنه لا ينطبق شرط المتواتر اللفظي إلا على عدد قليل جداً من الأحاديث، لهذا نجد أن أهل المصطلح -كـ ابن الصلاح ونحوه- البعيدين عن شر هذا العلم الكلامي المقاربين للسنة والجماعة لا يتعرضون لذكر هذا الحد؛ لأن مثاله إن لم يكن معدوماً، فإنه يسير جداً.
وهذا يلخص نتيجة: أنه ليس هناك متواتر لفظي من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم إلا جملة يسيرة من الأحاديث، وهذا على أحسن تقدير إن لم نقل: إنه لا مثال له من جهة السنة، فهو إن ثبت فله مثال أو مثالان أو أمثلة ليست بالكثيرة، وهذا يستلزم أن جمهور كلام النبي عليه الصلاة والسلام الذي اتفق المحدثون عليه، واتفق عليه الصحابة، بل واتفقت عليه الأمة -لولا مخالفة هؤلاء النظار- والذي هو مبنى معتقدها مع كلام الله سبحانه وتعالى؛ أنه لا يصلح حجة في مسائل الاعتقاد ومسائل أصول الدين.
ونحن إذا بحثنا عن أصل الانحراف الذي وقع في مسائل أصول الدين عند المسلمين وجدناه في الإعراض عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن أول انحراف وقع في مسائل أصول الدين هو قول الخوارج الذين ظهروا في آخر خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والذين حدث النبي عليه الصلاة والسلام بشأنهم، وذكرهم الرسول عليه الصلاة والسلام فيما تواتر عنه، حتى قال الإمام أحمد: (صح الحديث في الخوارج من عشرة أوجه).
وقال شيخ الإسلام: (إن حديث الخوارج متواتر).
وقال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه يخرج من ضئضئ هذا -أي: ذي الخويصرة - قوم تحقرون صلاتكم مع صلاتهم، وصيامكم مع صيامهم، وقراءتكم مع قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) وكان أول هؤلاء ظهوراً هو هذا الرجل الذي قام بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام وطعن في السنة، والسنة هنا هي قسمه صلى الله عليه وسلم للذهب الذي بعثه علي بن أبي طالب رضي الله عنه من اليمن، فقام هذا الرجل وطعن في قسم النبي صلى الله عليه وسلم، لما قسمه الرسول صلى الله عليه وسلم بين أربعة نفر، وحقيقة هذا الطعن أنه طعنٌ في السنة النبوية.
كذلك لما ظهر هؤلاء القوم الذين حدث النبي بشأنهم، كان أخص ما فارقوا به أصول المسلمين أو استوجب مخالفتهم لمعتقد الصحابة رضي الله عنهم هو عدم أخذهم بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم أخذوا جملاً مجملةً من القرآن كقول الله تعالى: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران:١٩٢] وكقوله: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة:٢٠] ونحو ذلك، وتركوا مفصل السنة الذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم بشأن الجهنمية، مع أن الصحابة كانوا يحدثون به بين ظهرانيهم.
وهذا يقود إلى نتيجة: وهي أن نظرية تقسيم السنة إلى آحاد ومتواتر، والتي هي مذكورة في كتب أصول الفقه وكتب المتكلمين في أصول الدين، ودخلت على الكتب المتأخرة في علم مصطلح الحديث ..
هذه النظرية يظهر تطبيقها جلياً في أفعال الخوارج وأقوالهم؛ فإن الخوارج لم يعتبروا هذه النصوص، وإنما اعتبروا القرآن وحده، فكأنهم يقولون: إنه لا يحتج بهذه النصوص التي رواها الصحابة لكونها ليست قطعية ..
ولأنه قد يدخلها الخطأ
إلى غير ذلك.
فلما ظهر علم الكلام في قرن التابعين، وظهر النظار، كتبوا هذه النظرية التي رافقت بعض ألفاظها ألفاظاً تكلم بها أئمة الحديث من المتقدمين، فإن لفظ التواتر ولفظ الواحد من الألفاظ المستعملة في كلام متقدمي أئمة الحديث، فلما تشابهت الألفاظ لم يتبين كثيرٌ من المتأخرين الحد الذي يقصده المتقدمون من أئمة الحديث بلفظ الواحد من الحديث أو ما رواه الواحد، فإنهم لا يقصدون بما رواه الواحد ما تقصده أئمة النظار بالآحاد، وكذلك المتواتر الذي ذكره الشافعي وغيره لا يقصدون به المعنى الذي يذكره النظار من المتكلمين.
إذاً: هذا الحد لا شك أنه حد باطل؛ لأنه يستلزم أن جمهور السنة النبوية لا يصح أن يحتج بها في مسائل الاعتقاد، وهذا مبني على مسألة، وهي أن مسائل الاعتقاد لا بد أن تكون قطعية، وأن القطعي: هو الذي يثبت بعلمٍ قطعي، وأن العلم القطعي لا يثبت إلا بالمتواتر الذي شرطه أن يكون رواه جماعةٌ عن جماعة
إلخ، وأما ما عدا ذلك من الرواية والبلاغ والخبر فإنه يكون ظنياً، والظن لا يناسب أن يكون معتقداً للمسلمين.
ولا شك أن هذه الحدود وهذه التقارير لا تصح؛ فإن سائر معتقد أهل السنة والجماعة -ولا شك- ثبت بعلمٍ قطعي، ولكن الاختلاف مع هؤلاء النظار ليس في هذا، وإنما فيما يثبت به العلم، وما يكون دون ذلك من الظن، فإن المتفق عليه بين السلف أن الحديث إذا اتفق عليه المحدثون، وجرى عليه الصحابة رضي الله عنهم، ولم يقع بشأنه اختلاف، فإنه يفيد علماً ضرورياً قطعياً، وإن كان مخرجه من جهة الرواية عن الرسول عليه الصلاة والسلام من جهة رجل أو رجلين أو نحو ذلك.