[حكم أهل المعاصي عند أهل السنة]
قال رحمه الله: [وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج].
أهل السنة بخلاف الخوارج، لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي، ومن ضبط تعبيره أنه لم يقل: لا يكفرونهم بالمعاصي والكبائر؛ لأن الشرك معصية وكبيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة قال: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله.
قال: الإشراك بالله ...)، وفي حديث ابن مسعود في الصحيح: (أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو لله نداً وهو خلقك).
فالقصد: أن تسمية الشرك كبيرة أمر ثابت في السنة، وإن كانت الكبيرة إذا اقترنت بذكر الكفر أو الشرك انصرفت إلى ما دون الكفر، بخلاف ما إذا انفردت فإنه يذكر بها الكفر وما دونه.
فمن ضبط المصنف هنا أنه قال: بمطلق المعاصي، أي: بآحاد الكبائر.
والذين يكفرون بها هم الخوارج، وجمهورهم يقولون: إنه يكفر كفر ملة، وقالت الإباضية منهم: إنه يكفر كفر نعمة، مع اتفاق الطائفتين على أنه في الآخرة مخلد في النار.
قال رحمه الله: [بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال سبحانه في آية القصاص: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:١٧٨]].
الأخوة الإيمانية ثابتة ولو مع الكبائر التي لا تنافي أصل الإيمان؛ خلافاً للمعتزلة الذين جعلوا الكبيرة موجبةً لإسقاط أصل الإيمان، ومسقطةً لأصل الأخوة في الدين، فيسلبون الفاسق الإيمان، ويجعلونه في منزلة بين الكفر والإيمان، وهذه منزلة مخالفة لأصول النظر والعقل؛ ولذلك ما يُزعم من أن المعتزلة هم أرباب العقل والانضباط العقلي هو تلبيس عظيم؛ فإن أول مبدأ المعتزلة كان في مسألة الكبيرة، فجاءوا بحكم مخالف للعقل، مخالف للذوق، مخالف للشرع من جميع الجهات، فقالوا: إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار.
فهذا مخالف -إن صح التعبير- للانفتاح العقلي، فكيف يزعم بعض الكتاب أن المعتزلة هم أرباب الانفتاح العقلي في تاريخ المسلمين، وهم رواد العقل والانفتاح والحرية العقلية، وأن الأئمة والمحدثين كانوا هم أهل الانغلاق والتشدد؟! فمن يزعم ذلك فلا شك أنه لم يفقه مذهب المعتزلة.
فإن المعتزلة جميعهم قد اتفقوا على أن من ارتكب كبيرة من المسلمين صار مخلداً في نار جهنم، وهذا من أصولهم، بل هو أول الأصول الذي انشقوا بها عن المسلمين، فأي انفتاح وأي اعتدال عقلي وأي سعة نظر يمكن أن يوصفوا بها مع هذا الأصل؟! هذه جهة.
الجهة الثانية: أنهم جاءوا باسم منغلق لا تستطيع أن تضع له مكاناً، فالخوارج على أقلِّ تقدير قالوا: هو كافر؛ لأن الناس إما كافر وإما مسلم، لكن هؤلاء قالوا: ليس بكافر وليس بمؤمن، بل في منزلة بين المنزلتين، فهذه المنزلة لا يوجد لها مكان في العقل، فمهما حاول العقل أن يثبت منزلة يكون صاحبها ليس مؤمناً وليس كافراً فإنه لا يستطيع.
قد يقول قائل: إن المعتزلة يقولون عنه: هو فاسق، فأقول: هذا الفاسق في مذهبهم ليس عنده شيء من الإيمان، ومن ليس عنده شيء من الإيمان يكون كافراً، فالكافر هو منعدم الإيمان.
ولذلك لما كانت هذه المنزلة منزلةً وهمية في العقل، وكانت القضية قضية أسماء، استطاع المعتزلة أن يوجدوا لها هذا الاسم في الدنيا، وفسروا اسم الفاسق في القرآن بمثل هذا، لكن لما جاءهم مقام الآخرة، ومقام الآخرة لا يوجد فيه أسماء وهمية، بل هناك حقائق؛ إما جنة وإما نار؛ انغلق عليهم القول، فجعلوه مخلداً في النار.
إذاً: مذهب المعتزلة في هذه المسألة مذهب ركيك من جهة العقل نفسه، وهم إنما تقووا بالعقل لما نقلوا هذا النقل من كتب الفلاسفة وما ركبوه في علم الكلام المولد من الفلسفة، وهذا ليس لهم فيه شرف؛ لأنه منقول عن غيرهم في الجملة.
قال المصنف رحمه الله: [وقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:٩] وقال سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:١٠]].
وجه الدلالة أن الله قال: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا)، مع أنه يُعلم أنهم حال اقتتالهم لا بد أن يكون أحدهم ظالماً والآخر مظلوماً، فلا بد أن يكون أحدهما باغياً على الآخر، فسماهم مؤمنين، والمراد هنا أصل الإيمان، ولا يلزم بالضرورة أن يراد الإيمان الكامل؛ ولذلك قال بعد هذا: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:١٠].
قال رحمه الله: [ولا يسلبون الفاسق الملي الإسلام بالكلية].
قيد المصنف اسم الفاسق بقوله: (الملي)؛ لأن الفسق يأتي في القرآن ويراد به الكفر بالله، قال الله تعالى عن إبليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:٥٠]، وكالفسق المطلق في القرآن؛ فقد نص شيخ الإسلام على أن اسم الفاسق إذا أطلق في القرآن فإنه يراد به الكافر، بل هذا هو الغالب على موارد ذكره في القرآن، وإن كان قد استعمل في غير ذلك، كقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} [الحجرات:٦]، فالفاسق هنا ليس المراد به الكافر، وإنما المراد به الكاذب أو ما إلى ذلك، هذا إذا فسرت الآية بما هو مشهور من جهة التفسير في سبب نزول هذه الآية.
قال رحمه الله: [ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان كما في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:٩٢]].
فالفاسق يدخل في اسم الإيمان، وإن كان لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، وهذه من حقائق مذهب السلف: أن اسم الإيمان ورد في كتاب الله مورداً متنوعاً، وهذه الحقيقة هي الموجبة لضبطهم لمسألة الإيمان، بخلاف غيرهم من الطوائف، فإن أصل غلطهم أنهم جعلوا مورد اسم الإيمان في القرآن واحداً؛ فالخوارج والمعتزلة وجدوا أن القرآن يذكر المؤمنين عند الإطلاق على التحقيق، كقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:١] وما بعدها من الآيات، وكقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:٢]، فوجدوا أن الاسم المطلق للمؤمنين إنما يكون لمن حقق الإيمان، فاعتبر الخوارج والمعتزلة مثل هذه السياقات.
وأما المرجئة فإنهم اعتبروا ظاهر التفريق من مثل قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:٢٧٧].
والصواب: أن مورد الإيمان متنوع في كتاب الله، ولذلك فقول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:٩٢] المقصود هنا بالمؤمنة: من حقق أصل الإيمان، ولذلك يصح عتق الفاسق بإجماع الفقهاء.
قال رحمه الله: [وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً} [الأنفال:٢] وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبةً ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن)].
المؤمن هنا هو المؤمن المطلق المذكور في قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:١]، فالزاني حين زنى لم يكن داخلاً في هذا الاسم؛ لكنه يدخل في قول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:٩٢].
قال رحمه الله: [ونقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته].
الجملة الأولى أفصح في مخالفة المرجئة؛ لأن جماهير المرجئة يقولون عن مرتكب الكبيرة: إنه مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، كالأشعرية ونحوهم، لكنهم لا يجعلون إيمانه ناقصاً بموجب هذه الكبيرة، والسلف كانوا يقولون عنه أنه مؤمن ناقص الإيمان، وهذا أفصح من جهة مخالفة المرجئة.
قال رحمه الله: [فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم].
قوله: (لا يعطى الاسم المطلق) هو اسم الإيمان المطلق في سائر موارده، (ولا يسلب مطلق الاسم) بحيث لا يسمى مؤمناً في سائر الأحوال، بل يسمى مؤمناً بحسب المقام المقتضي له، والمقام المقتضي له ما يتعلق بأحكام الدنيا؛ كالعتق وما يتعلق بالشهادة له بأصل الإيمان ..
وهلم جراً.