للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[مسألة محاسبة الكفار]

قال المصنف رحمه الله: [وأما الكفار فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم].

الكفار لا يوافون ربهم بحسنة، وإن كانوا يعملون أعمالاً حسنة في الدنيا، فإن هذا يجازون به في دار الدنيا، كما في الصحيح عن أنس بن مالك في صحيح مسلم وغيره قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يعطى بها في الدنيا، ويجزى بها في الآخرة، وأما الكفار فيطعم بحسناتٍ ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة، لم تكن له حسنة يجزى بها)، والصواب في قراءة الحديث: أن تنون كلمة (حسنات)، فتكون (ما) نافية، أي: فيطعم بحسنات لم يعمل بها لله في الدنيا، أي أن هذه الحسنات لم يعمل بها لوجه الله، والأمر كذلك، فإن الكفار وإن كانوا قد يفعلون فعلاً حسناً كبر الوالدين، أو كصلة الرحم، أو كالعتق، أو كصدقات وبر وما إلى ذلك، فإن هذا وإن كان خيراً وحسنة، فإنه ليس المقصود عندهم هو وجه الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:١١٤] ثم قال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:١١٤]، فالقرآن والسنة تبينان أن الكفار يجازون بحسناتهم في الدنيا ولا يوافون ربهم بحسنة.

قال المصنف رحمه الله: [ولكن تعد أعمالهم فتحصى، فيقفون عليها ويقرون بها].

أما مسألة محاسبة الكفار، فإن بعض المتأخرين من أصحاب الأئمة أطلق أنهم يحاسبون، وهذا ذكره المصنف في فتاواه، قال: إن بعض أصحاب أحمد وغيرهم، قال: إنهم يحاسبون، وبعضهم قال: إنهم لا يحاسبون، قال: والصواب: التفصيل، هذه الطريقة التي يستعملها ابن تيمية رحمه الله وابن القيم كثيراً، ويستعمل كثير من المتأخرين هذه الطريقة، فتجدهم يقولون: بعضهم قال كذا، وبعضهم قال كذا، ثلاثة أقوال أو أربعة أقوال، ثم يقال: والصواب التفصيل.

والصواب هنا هو من حيث اللفظ.

بمعنى أنه إذا قيل: الصواب التفصيل، فقد يكون الصواب من حيث المعنى، وقد يكون الصواب من حيث اللفظ، فما الفرق بينهما؟!

إذا قلنا أنه صواب من حيث اللفظ، فمعناه أن ابن تيمية يقول: إن الكفار لا يحاسبون محاسبة من توزن حسناتهم مع سيئاتهم؛ لأنهم لا حسنات لهم، ولا يوافون ربهم بحسنة، فهل من قال من أهل العلم أن الكفار يحاسبون، كان يقصد أنهم توزن حسناتهم مع سيئاتهم، وأنهم يوافون ربهم بالحسنات؟ لا.

لا يلزم هذا.

ثم يقال: فيقررهم الله بذنوبهم، هل من قال أنهم لا يحاسبون، قال: إنهم لا يقررون؟ لا.

فإذاً: كلام شيخ الإسلام أحكم ليس من جهة المعنى، فإن المعنى في الجملة فيه اتفاق, وإنما هو أحكم من جهة اللفظ.

ومن أمثلة ذلك ما يتعلق بمسألة غسل الجمعة، فإن شيخ الإسلام قال: إن الأئمة الأربعة يذهبون إلى أن غسل الجمعة ليس واجباً، إنما هو مستحب، ومن أهل العلم من ذهب إلى وجوبه.

وفصل ابن تيمية -وانتصر له ابن القيم - فقال: أن من كان فيه رائحة يتأذى منها الناس، فيجب عليه الغسل، ومن لم يكن كذلك لم يجب عليه الغسل.

فيأتي البعض ويقول: الصواب التفصيل، فهذا الصواب هو من حيث اللفظ لا من حيث المعنى، والفرق أنك إذا قلت: الصواب من حيث المعنى، لزم من ذلك أن القول الثالث غير القول الأول وغير القول الثاني، وهو ليس كذلك، لأن القول الذي قال به شيخ الإسلام حقيقته هو قول الأئمة الأربعة الذين يقولون: لا يجب غسل الجمعة، لأنهم حينما قالوا: إن غسل الجمعة ليس واجباً ما أرادوا أنه كذلك حتى ولو كان به رائحة يتأذى بها الناس، فهذه مسألة خارجة، لكونها عارضة، وهم يتكلمون عن أصل الحكم الشرعي؛ ولذا لا يجوز أن نقول: أن الأئمة الأربعة يقولون: لا يجب غسل الجمعة: لا على من به رائحة يتأذى بها الناس، ولا على من ليس به رائحة، وأن ابن تيمية يفصل.

ولو كانت الوسطية هنا وسطية المعنى، لزم أن نقول هذا القول.

والنتيجة من هذا أن التفصيل لا ينبغي أن يلجأ إليه إلا في التقارير العلمية، ولا يفصل للعامة، بمعنى أن يقال: مسألة غسل الجمعة ليس فيها لأهل العلم إلا أحد قولين: عدم الوجوب، وهو قول الجمهور واختاره ابن تيمية.

ولكن شيخ الإسلام نبه إلى مسألة: وهي أن من به رائحة يغتسل، وهذا يوافق الجمهور، مثل ما قلت مذهب الإمام أحمد أن صلاة الجماعة واجبة، إذا شخص خاف فوت رفقته، فجاء شخص وقال: الصواب التفصيل، فمن حصل له الخوف أو مرض لا يجب عليه الجمعة.

فنقول: ليس مقصوداً في كلام الإمام أحمد، أن الجماعة واجبة على كل حال.

فالمقصود أن كثرة العناية بأن يكون الراجح من الأقوال هو التفصيل الذي فصله متأخر، ليس منهجاً حكيماً، مع أنه -ومع الأسف- يهتم الكثير بذلك، فتجد المسألة في كلام الأوائل الأكابر على قولين مثلاً، ثم يقال: الراجح ما ذكره ابن القيم، وهو التفصيل، وما ذكره ابن القيم ليس خارجاً عن القولين، لأنه لو خرج عن القولين كان القول غلطاً.

وإن كان هناك خلاف مع بعض المعتزلة ومن شاركهم في هذا الأصل من الأشاعرة أو الفقهاء، إلا أن الصحيح المنضبط عند السلف أنه إذا انضبطت الأقوال على قولين أو ثلاثة، فلا يجوز لأحد أن يزيد قولاً رابعاً خارجاً عنها.

وأكثر ما يقول فيه أعيان المتأخرين: الصواب التفصيل، هو من التفصيل اللفظي، الذي لا ينبغي أن يلجأ إليه إلا عند الاحتياج.

<<  <  ج: ص:  >  >>