[فضل أهل بدر]
قال المصنف رحمه الله: [ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر -وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر-: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)].
هذه شهادة لأهل بدر ولأهل بيعة الرضوان: أن كل من شهد بدراً أو بيعة الرضوان فإنه في الجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال في أهل بيعة الرضوان: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة)، وهذا جاء في أحاديث من غير وجه في الصحيحين، وأما أهل بدر فقد قال النبي ذلك في قصة حاطب لما كاتب من كاتب من المكيين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، وهذا كان اعتذاراً لـ حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.
لكن مما ينبه إليه: أن من يقول: إن ما حصل من حاطب هو مظاهرة المشركين على المسلمين، وهذا كفر ..
أن هذا كجملة عامة، لكن هذه الجملة تحتاج إلى فقه، فمن يقول: إن حاطباً قد ظاهر المشركين -أي: ناصرهم على المسلمين- لما كتب يخبرهم ما كان من قصد النبي صلى الله عليه وسلم؟
بعضهم يقول: إن ما حصل من حاطب هو من المظاهرة، لكنه لم يكفر؛ لأن النبي قال: (إن الله اطلع على أهل بدر) فاستثنى حاطباً، فإن كان مقصوده أن هذا الفعل الذي حصل من حاطب لو لم يشهد بدراً لكان به كافراً مع إيمانه؛ فهذا غلط في التفسير؛ لأن شهادة بدر لا تمنع ارتباط الأحكام بأسبابها؛ من جهة الأصل الشرعي لا من جهة القضاء الرباني، فالقضاء الرباني سبق أن البدريين لم يكفروا، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، ولذلك من يقول: لو حصل منهم الكفر فإنه يُغفر لهم، نقول له: إن الله لما اطلع على أهل بدر وقال: (اعملوا ما شئتم) كان ذلك؛ لأن قضاءه القدري سبق أن البدري يثبت على الإيمان، وإن كان قد يعرض له ما هو من النقائص، فهذا هو معنى قوله: (فقد غفرت لكم)، فأخطاؤهم تغفر؛ مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج يهدم ما كان قبله)، فكذلك من حضر بدراً فهي تهدم ما كان قبلها وما كان بعدها، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأعمال: (غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر).
وإن كان جمهور الأحاديث ليس فيها: (وما تأخر)، فإن هذا يذكر في حق النبي عليه الصلاة والسلام.
المقصود: أن هذه الإيراد جهل؛ لأن البدري سبق القضاء أنه لا يطبق على الكبائر، وهذا الذي حصل تاريخياً، فكل البدريين بقوا مؤمنين ثابتين على الإيمان.
والمقصود هنا: أن من يقول: إن حاطباً ما حصل منه قد كان به يكفر لو أنه لم يشهد بدراً ..
هذا غلط أولاً: من جهة الأصول الشرعية ليس هناك عمل يمنع الكفر، فمن قال: لا إله إلا الله ويحقق الألوهية ويصلِّي لله ثم يكفر فإنه يحكم عليه بالكفر، ولا يقال: ما دام قد صلَّى سابقاً فإنه لا يكفر، فإن هذا يخالف الأصول الشرعية، إنما الذي يقال هو من جنس قول الله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} [النحل:١٠٦] فما حصل من حاطب رضي الله تعالى عنه لا شك أنه كان خطأً ومعصيةً لله ورسوله، وهذا يدخل في المعاصي التي تدخل في قول الله: (اعملوا ما شئتم)، لكن لم يكن الذي حصل من حاطب هو من الكفر، وإن كان هذا الكلام لا يفهم منه ..
كما يفهم بعض الناس إذا قرر له هذا الكلام أنه يلزم منه أن كل من كان يراسل الكفار مظاهرة لهم على المسلمين لا يكفر بهذا العمل؛ فما دمنا قلنا: إن فعل حاطب لم يكن كفراً منه، فيلزم منه أن كل من كاتب الكفار يخبرهم بأحوال المسلمين أنه لا يكفر بالعمل.
وهذا لا يلزم، فهذا الفعل قد يقع من معين ويكون به كافراً، وقد يقع من معين آخر ولا يكون به كافراً؛ هذا هو الجواب الشرعي الصحيح: أن مظاهرة المشركين كأصل عام كفر.
لكن هل هذا الفعل حقيقته أنه مظاهرة أم لا؟ هذا قد يختلف في بعض الأعيان، بمعنى: أن يغلب على معين ما هو من قصد درء المفسدة المتعلقة بأهله، ولا يظن أن هذا العمل مما يوجب الكفر، وتكون لديه جملة من الموانع، وهي أشبه ما يكون باجتماع الشروط وانتفاء الموانع، فما حصل من حاطب كان هناك مانع من كون هذا من الذي يكفر به.
إذاً: يبقى عندنا القاعدة: أن مظاهرة المشركين كفر، لكن الصور لا يلزم أن تطرد في سائر الموارد، بعض الصور من المظاهرة كفر لا يتردد فيه، وبعضها قد تكون من بعض الأعيان كفراً ومن بعض الأعيان دون الكفر، وهذا هو الذي حصل من حاطب رضي الله تعالى عنه.
أما إذا قيل: إن كل من كتب لا بد أن يكون كافراً على الإطلاق في سائر الموارد، والاستثناء في حاطب ليس من جهة إيمانه: أنه لم يشرح بالكفر صدراً، وليس من جهة الموانع، إنما من جهة بدر فقط لأن الله ضمن مغفرتهم ..
فهذا غير صحيح، أما إذا قيل: إنه من جهة أن البدري مؤمن، فهذا أمر آخر، إذا قيل: إن البدري لا يكون إلا مؤمناً ..
فهذا صحيح، لكن إذا قيل: إن البدري يغفر له حتى ما كان كفراً، فهذا لا شك أنه غلط على أحكام الله ورسوله؛ لأن الله لا يرضى لعباده الكفر، ولا يمكن أن يغفر الكفر لأحد، وقوله: (اعملوا ما شئتم) ليس معناه: أنه قد يقع منهم الكفر، هذا قاله رب العالمين الذي يعلم مآلهم وحالهم.