للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إثبات صفة المحبة]

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقوله: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:١٩٥]، وقوله: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:٩]، وقوله: {فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:٧]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:٢٢٢]، وقوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١]، وقوله: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:٥٤]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:٤]]:

بعد أن ذكر المصنف رحمه الله قاعدة مطردة عند أهل السنة والجماعة في باب أسماء الرب سبحانه وصفاته شرع بعد ذلك في ذكر الآيات من القرآن الدالة على جملة من الأسماء والصفات.

وعُنِي بذكر هذه الآيات على طريقةٍِ فيها قدر من التفصيل، وهذه العناية موجبها ابتداءً أن هذا الباب عند عامة المسلمين من أهل الإثبات من السلف والفقهاء وغيرهم مبني على النصوص؛ فمن قواعد أهل السنة والجماعة أن باب الأسماء والصفات باب توقيفي.

ولهذا لا عجب أن يستطرد المصنف بذكر هذه الآيات المتضمنة للأسماء والصفات.

وهنا مقام آخر وهو: أن الإثبات لهذا -الخبري وهو باب غيبي في جملة تفاصيله- لا بد أن يكون معتَبَراً بالخبر.

فإنه وإن قيل: أن الكليات في باب الأسماء والصفات تدرَك بالعقل، وأن بعض الصفات تدرَك بالعقل، فلا شك أن العلم بتفاصيل هذا الباب لا بد أن يكون متلقَّى عن الدليل الخبري القرآني أو النبوي.

وهنا مسألة عُنِي المصنف رحمه الله بتقريرها، فإنه يقول: إن هذا الباب الذي ذكره الله سبحانه وتعالى مفصلاً في كتابه، لا بد أن يفقه فيه معناه، فإن الله وصف نفسه في القرآن بالإثبات والنفي، كما في قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١].

وهذا الإثبات الذي غلب عليه التفصيل في القرآن، بعض ما ذُكِر منه مضافاً إلى الله سبحانه وتعالى قد جاء ذكره مضافاً إلى العبد المخلوق.

وهذه المسألة تعد عند الطوائف أصل فقه هذا الباب، ولهذا لا بد من العناية بها، فإن الله ذكر رحمته وعلمه ومحبته، وبتعبير آخر: ذكر العلم، والرحمة، والمحبة، والسمع، والبصر، مضافةً إليه، أي: أنها صفات من صفاته.

وجملة هذه الصفات قد جاء ذكرها في القرآن مضافةً إلى العبد، وهذا واضح في السياق الذي ذكره المصنف؛ ففي قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:٥٤] ذكر لصفة المحبة أضافها الله سبحانه وتعالى إلى نفسه في قوله: {يُحِبُّهُمْ} [المائدة:٥٤] وأضاف الصفة إلى عبده بقوله: {وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:٥٤]، وهلم جراً.

وإن كان لا يلزم أن كل صفة اتصف الرب سبحانه وتعالى بها يصح أن تكون مضافةً إلى العبد، لكن لا شك أن قدراً من الصفات المفصلة في القرآن، أضيفت إلى الله في سياق، وأضيفت إلى العبد في سياق آخر.

وقد ذهب السلف رحمهم الله إلى أن الإضافتين كليهما على الحقيقة، فهذه إذا أضيفت إلى الله صفة له على الحقيقة، وإذا أضيفت إلى العبد فهي صفة للعبد على الحقيقة، ولا يلزم من ذلك التشابه والتماثل؛ لأن صفة الله أضيفت إليه فهي لائقة به، وصفة العبد أضيفت إليه وهي لائقة به.

وكما عُلِم بإجماع أهل الفطرة ومن يقرون بأصل وجود الله وربوبيته من المسلمين وغير المسلمين أن ذات الباري سبحانه وتعالى تختلف عن ذوات المخلوقين أجمعين، من بني آدم وغيرهم، فإذا كانت ذاته بالفطرة والعقل وإجماع عامة العقلاء من المسلمين وغيرهم؛ مباينة لذوات المخلوقين؛ فإن الصفات تكون تابعة للذات؛ بل إن الذات لا يمكن أن تنفك في العقل والوجود عن صفاتها؛ ولهذا يمتنع أن ذاتاً قائمة بنفسها تكون موجودة إلا وهي متصفة بجملة من الصفات.

وجملة كثيرة من الوهم الذي دخل على أهل البدع من المعتزلة وغيرهم في باب صفات الله انبنت على أن الصفات منفكة عن الذات، أو كما يعبرون: أن الصفات قدر زائد على الذات، وهذا كله لغوٌ في العقل والوجود، فإنه لا يمكن أن ذاتاً توجد منفكةً عن صفاتها، ولا يمكن أن يقال: إن الصفات قدر زائد على الذات، بل هذا التقسيم أمر يفرضه العقل، وكثير من الآراء التي تكلم بها المخالفون للسلف وزعموا أنها من العقل، حقيقتها أنها من فرض العقل، وليست من حكمه.

وكما قلت سابقاً -وهذه قاعدة ينبغي أن يستفاد منها في سائر العلوم، ليس في هذا الباب وحده، بل حتى في مسائل الأصول، والفقه، والتقاسيم، وتنزيل المسائل، وتحصيل موارد النزاع في المسائل، إلى غير ذلك-: إن ما يسمى في المنطق والقواعد بالسبر والتقسيم، أو ما يسمى عند الأصوليين وكثير من الفقهاء بتحصيل مورد النزاع في المسائل، هذا كله ينبني على تحكم العقل، أي: فروضات العقل، فلا بد أن يفرق الناظر وغيره من طلبة العلم بين أمرين:

بين الشيء الذي يفرضه العقل فرضاً، وبين الشيء الذي يتصوره العقل ويحكم به.

فإن ما فرضه العقل لا يكون له حقيقة علمية إلا إذا قبل العقل تصوره وتحكيمه، أما إذا عرض عرضاً للعقل، فهذا لا قيمة له.

فطوائف المبتدعة يقولون: إن العقل يفرق بين الذات والصفات، ونسميه فرضاً في العقل؛ ولكن العقل لا يمكن أن يتصوره.

والمسائل التي يفرضها العقل ليست هي من العقل، بل هذا أول المنازل لتحصيل المعارف، وهو من تقدير الله سبحانه وتعالى لهذه القوة في الإنسان ليعلم بها الأشياء ويعرف بها الحقائق.

فالمقصود أن هذا الباب لا بد من فقهه على هذا الاعتبار، فإن سائر ما أضافه الله إلى نفسه لائق به، وسائر ما أضيف إلى العباد لائق بهم، ومن هنا يمتنع أن تكون صفة واحدة من صفاته سبحانه وتعالى مشابهة أو مماثلة لصفات المخلوقين، وليس الجواب عن هذه الإضافة وهذه الإضافة أن يقال: إنها -أي: هذه الصفات- حقيقة في العبد وهي مجاز في حق الله، فإن هذا حقيقته التعطيل لصفات الله سبحانه وتعالى، فإن الصفة من هذه الصفات إذا أضيفت إلى مخلوق في سياق، وأضيفت إلى مخلوق آخر في سياق آخر، لم يلزم من ذلك تماثل الصفة التي أضيفت إلى مخلوقَين في سياقين مختلفين، وموجب عدم تماثل الصفة أن ذات المخلوق الأول تختلف عن ذات المخلوق الثاني، فإذا كان الأمر كذلك، علم أن ما أضيف إلى الله من الصفات يمتنع أن يكون مماثلاً لصفة مخلوق، لأن الصفة تابعة للذات، والله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء.

وإذا قيل: إن إثبات صفة لله أضيفت إلى العبد يستلزم التشبيه والتمثيل.

قلنا: هذا حقيقته القول بإنكار وجود الله؛ لأن العقلاء من المسلمين وغير المسلمين الذين أقروا بوجود الله -وهم عامة بني آدم- يقولون: إن الله موجود، وإن هذه المخلوقات موجودة، ومع ذلك لم يكن وجوده سبحانه وتعالى كوجود المخلوقات، بل جميعهم يتفقون على أن وجوده سبحانه وتعالى وجود أزلي، وهذا هو معنى كونه رباً ومعنى كونه خالقاً، ولو كان وجوده مسبوقاً بالعدم لما كان رباً خالقاً.

فإذا كان وجوده باتفاق العقلاء من المسلمين وغيرهم يختلف عن وجود غيره من المخلوقات -والعالم وما فيه من الحوادث- دل ذلك على أن لفظ الوجود لفظ أضيف إلى الله وأضيف إلى هذه المحدثات جميعها، ومع ذلك اختلف مراده واختلف معناه في حق الله وحق خلقه.

وهذه قاعدة: أن كل من عارض في صفة من الصفات وزعم أن إثباتها يستلزم أن تكون مشابهة للصفة المضافة إلى المخلوق، فإنه يبين غلطه ومفارقتُه للحق بذكر صفة الوجود، فيقال له: إنك تؤمن بأن الله موجود، والمحدثات موجودة، ووجودهما مختلفان، فوجوده تعالى هو -كما يسمى- وجود واجب، ووجود المخلوقات وجود ممكن، أو بعبارة أخرى: وجود الله وجود لا أول له، وهو وجود أزلي، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت الأول فليس قبلك شيء)، ووجود المحدثات مسبوق بالعدم.

ويعارَض كذلك ويغلَّط بصفة العلم، فإن الله يتصف بالعلم، والمخلوق يتصف بالعلم، فمن قال: إن العلم في حق المخلوق حقيقة وفي حق الله مجاز -ومعنى المجاز عند أهل المجاز أنه ما صح نفيه- فحقيقة قوله نفي العلم عن الله، وهلم جراً.

فهنا تعلم أن هذا الباب -باب الأسماء والصفات- لا بد أن يعتبر فيه سياق القرآن، ومن هنا قصد المصنف إلى ذلك.

وهذه الآيات التي ذكرها المصنف هي في تقرير صفة المحبة، وصفة المحبة: من صفاته سبحانه وتعالى المضافة إلى نفسه، وقد ذكرها الله سبحانه وتعالى في غير موضع، كما ذكر المصنف هنا، وذكرها النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

ومعناها عند أهل السنة والجماعة كغيرها من الصفات، أن الله سبحانه وتعالى يوصف بالمحبة.

ولكن أنبه إلى أمر مهم سبق الإشارة إليه ولا بد من تقريره على وجه أكثر تفصيلاً، فأقول: إن القاعدة المعروفة عند أهل السنة من أن الله سبحانه وتعالى يوصف بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، لا بد أن يلتزم فيها بالسياق الذي ذكره الله سبحانه وتعالى.

فصفة المحبة لم يذكرها الله سبحانه وتعالى من صفاته المطلقة، وإنما ذكرها من صفاته المضافة في مقام مختص، فإنها ما ذكرت إلا في حق المؤمنين، ولهذا فإن معنى محبته سبحانه وتعالى على الحقيقة: أنه يحب المؤمنين محبة تليق به سبحانه وتعالى، ليست كالمحبة التي تضاف إلى المخلوق.

<<  <  ج: ص:  >  >>