للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأصل السابع: إحكام القول في القدر مع الشرع]

الأصل السابع: أن أهل السنة والجماعة يحكمون القول في القدر مع الشرع، فإن التوحيد أصله علم وطلب، وهذا هو التقسيم الذي يذكره شيخ الإسلام ابن تيمية، فما يتعلق بتوحيد الربوبية هو توحيد العلم، ويدخل فيه الأسماء والصفات، وإن كان بعض أهل العلم من أئمة الدعوة وغيرهم ممن قبلهم يميزون الأسماء والصفات لاختصاص المنازع فيها، وهذا من التقاسيم السائغة.

فالمقصود: أن التوحيد علم وطلب ..

فالعلم هو معرفة الله، والطلب هو عبادته بما شرع، فيقال: إن من أصول أهل السنة والجماعة: الجمع بين مقام الشرع والقدر، والجمع بين معرفته سبحانه وتعالى وعبادته، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الإيمان الذي بعثت به الرسل هو معرفته سبحانه وعبادته بما شرع).

وليس هناك طائفة اختصت بالمخالفة في مسألة الجمع بين الشرع والقدر، وإنما ثمة طوائف غلت في مقام الشرع، وقصرت في مقام القدر، وثمة طوائف غلت في مقام القدر، وقصرت في مقام الشرع.

أما من غلا في مقام الشرع وقصر في مقام القدر فهم: المعتزلة وأمثالهم؛ فإن المعتزلة كانوا معظمين إلى درجة الغلو في الأمر والنهي، من جهة أنهم يرون أن من ترك واجباً تركه كبيرة فإنه يكون قد عدم الإيمان، ويكون مخلداً في نار جهنم، فهذا من باب الغلو في الأمر والنهي، مع أن المعتزلة عندهم تقصير في باب القدر، من جهة أنهم قدرية نفاة للقدر، أي: نفاة لخلق الله لأفعال العباد، نفاة لمشيئة الرب لها.

فهم لم يجمعوا بين مقام الشرع ومقام القدر، بل مالوا إلى الغلو في الشرع، وأسقطوا مقام القدر، وإذا قيل ذلك فلا يظن أنهم كفروا به من كل وجه، وإنما أسقطوا التحقيق له.

وهناك من يكون عنده غلو في باب القدر وإسقاط لما هو من الشرع، وهذا لا يقع مذهباً لقوم من النظار، وإنما يقع في بعض الطوائف من جهة أعيانهم، حتى من أهل السنة والجماعة؛ كمن يحتج على معاصيه بالقدر؛ فإن هذا قد بالغ في مقام القدر حتى جعله عذراً في معاصي العباد، وأسقط به مقام الشرع.

فمن غلا في مقام القدر إلى أن جعله موجباً لسقوط أحكام الشريعة أو المؤاخذة عليها، فهذا ممن لم يحقق الجمع بين الشرع والقدر.

فهذا هو الأصل السابع من أصول أهل السنة والجماعة، وهو الجمع بين مقام الشرع والقدر، وهم في ذلك وسط بين هؤلاء وهؤلاء.

وممن يغلو في مقام القدر ويُسقط به ما هو من الشرع، لا على سبيل التعيين كحال الفجار من العصاة الذين يفجرون ويأتون الكبائر ويعتذرون بالقدر: بعض الطوائف من الصوفية، أصحاب الفناء، والفناء عند الصوفية يأتي على ثلاثة أوجه: الفناء عن وجود السوى، وعن إرادة السوى، والفناء عن شهود السوى.

والفناء الذي يذكر أهل العلم كـ شيخ الإسلام أنه من الفناء الشرعي، إنما ذلك باعتبار معناه، وإلا فاللفظ صوفي، وهو الفناء عن إرادة السوى، أي: أنهم لا يريدون بأعمالهم إلا الله.

أما الفناء عن شهود السوى ووجوده فهو فناء الصوفية المنحرفة عن السنة والجماعة: إما انحرافاً غالياً إلى حد مادة الكفر؛ كفناء الوجودية الصوفية كـ ابن عربي وأمثاله، الذين عندهم فناء عن وجود السوى، وإما فناء عن شهود السوى بما هو من إسقاط بعض مقامات الشرع، وهذا يقع في كلام بعض الصوفية الذين لا يصلون إلى حد ابن عربي وأمثاله، كـ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي، ومن ذلك قوله: (إن من شهد هذا المقام -مقام القدر والربوبية- لا يستحسن حسنة ولا يستقبح سيئة)، مع أن الهروي رحمه الله لا يلتزم بطرد أصله في مسألة القدر على مسائل التشريع كطرد الباطنية الذين يسقطون التشريع بالأعيان.

فيوجد في كلام هؤلاء مادة من الغلو في القدر وإسقاط ما هو من الشرع، وقولهم ليس منتظماً كقول المعتزلة، ولكنه مادة شائعة في كلام الصوفية، وهم فيها على درجات.

وفي الغالب: إذا تكلمت مع المتكلمين تستطيع أن تضبط أقوالهم؛ لأن أقوالهم في الغالب تأتي على التعيين، وأما إذا تكلمت مع الصوفية، فإنه في الغالب يتعذر الضبط لأقوالهم؛ لأن مادتهم تقوم على المراميز (الرموز)، وعلى الإشارات، وعلى الإفصاح وعدم الإفصاح، وغير ذلك.

ولذلك قد يتكلم بعضهم بحرف يتكلم به الآخر، ويكون مقصود الأول بهذا الحرف غير مقصود الآخر.

فالصوفية لا يفسر كلامهم على وجه واحد، بل لابد من اعتبار درجة المتكلم، فقد يختلف الصوفية في تفسير الحرف.

وبعض من يدرس كلام بعض الصوفية المقتصدة (المعتدلة) في كثير من المسائل، قد يرى في كلامهم بعض الأحرف التي تكلم بها الغلاة منهم وفسروها، فيفسر كلام هذا المقتصد بما فسر به ذاك الغالي هذا الحرف؛ لأن الحرف حرف واحد، وذلك كلفظ (الفناء) -وهذا من أقرب الأمثلة- فالفناء مستعمل في كل درجات الصوفية، فكل طبقات الصوفية يتكلمون بحرف الفناء، لكن ابن عربي والتلمساني إذا تلكموا في الفناء فمعناه عندهم شديد، وإذا تكلم عنه أمثال الهروي فمعناه دون ذلك، وإذا تكلم به الجنيد بن محمد فمعناه دون ذلك بكثير.

فالمقصود: أن الحرف الواحد ليس ملزماً، ولا يفسر في الغالب بمادة واحدة.

<<  <  ج: ص:  >  >>