[كيفية ذكر المذاهب المخالفة عند طائفة من علماء أهل السنة]
من الحقائق التي تلاحظ في باب التقرير والرد أن طائفة من علماء السنة والجماعة رحمهم الله إذا ذكروا مذاهب المخالفين لهم، فقد يكون ذلك ذكراً للمذهب المطابق، وقد يكون ذكراً للمذهب المتضمن، وقد يكون ذكراً للمذهب اللازم.
وهذه مسألة لا بد لطالب العلم أن يتفطن لها في كلام أهل السنة أنفسهم، فكثير من أهل السنة إذا ذكروا مذاهب مخالفيهم، فإنهم قد يذكرون المذهب بلوازمه وما يتضمنه.
فمن يقرأ في كلامهم، يقول: إن هذه الطائفة المخالفة لهم تعتقد هذا المعتقد، والتحقيق أن الطائفة لا يلزم أن تعتقد هذا المعتقد.
وأضرب لذلك مثلاً:
إذا قرأت في كلام بعض علماء السنة والجماعة في ذكر مذهب جمهور المرجئة الذين قالوا: إن الإيمان هو التصديق، تجد أنهم يقولون: يرى هؤلاء المرجئة أن الإيمان هو تصديق القلب وأن الأعمال لا تدخل في اسم الإيمان، وأن أعمال القلوب -كالمحبة والتعظيم والرضا- لا تدخل في اسم الإيمان.
وعلى قول هؤلاء أن إيمان جبريل وإيمان سائر الفساق سواء.
فهذه من حيث التفصيل ثلاث جمل:
الجملة الأولى: أن الإيمان هو التصديق وأن الأعمال الظاهرة لا تدخل في اسم الإيمان.
الجملة الثانية: أن أعمال القلوب كالمحبة والرضا لا تدخل في اسم الإيمان.
الجملة الثالثة: في التقرير قالوا: وعلى قول هؤلاء يكون إيمان جبريل وإيمان الفساق سواء.
والحقيقة أن المذهب الذي قاله أصحابه هو الجملة الأولى فقط، أما الجملة الثانية فهي محتملة في المذهب.
وأما الجملة الثالثة فهي ليست من المذهب، فإن قيل: إننا نرى في كلام طائفة من علماء السنة هذا الاستعمال، قيل هذا صحيح.
وهناك قاعدة: أن المصطلحات المتأخرة لا يجوز أن يحكم بها على الطرق التي استعملها قوم من متقدم العلماء.
فالدلالات الثلاث التي انتظمت عند أهل الحد والمنطق والاصطلاح -وهي دلالة المطابقة، ودلالة التضمن ودلالة التلازم- قد درج المتقدمون وكثير من علماء السنة على جمعها على المذاهب، يقصدون بذلك التقرير لبطلان هذه المذاهب.
ولا شك أنك إذا أردت إبطال مذهب المرجئة، صح لك أن تعارض مذهبهم؛ بأنه يقتضي أن يكون إيمان جبريل كإيمان الفساق؛ فإن هذا لازم للمذهب؛ لأنهم لما قالوا: إن الإيمان هو التصديق، لزم أن يقال: إن جبريل مصدق، وإن الفاسق مصدق، وعندكم أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فيلزم أن يكون إيمان جبريل كإيمان الفساق، وهذا يعلم بطلانه، فالنتيجة أن المذهب يعلم بطلانه؛ لأنه لزم عنه قول باطل.
لكن هناك قاعدة حتى علماء السنة يسلمون بها: أن لازم المذهب لا يعد مذهباً، وأن لازم الأقوال ليست أقوالاً تضاف إلى الناس.
إذاً: يقول المرجئة: الإيمان هو التصديق، أما أنهم يقولون: إيمان جبريل كإيمان الفساق، فهذا لم يقله أحد من أئمة المرجئة ولا حتى الغالية منهم كـ الجهم بن صفوان، وهو أشد غلواً من جميع من ذكر قولاً في الإرجاء؛ فلا أحد من المسلمين أو المنتسبين للقبلة يقول: إن إيمان جبريل كإيمان الفساق، أو أن إيمان النبي عليه الصلاة والسلام كإيمان أكلة الربا وجمهور الفساق، فهذا القول لم يقله أحد من المسلمين ولا ممن انتسب إلى الإسلام، والملة في شيء، إنما هي لوازم ألزم بها أصحاب السنة أهل البدع، فيعرف بها بطلان مذهبهم فحسب.
بل يذكر ذلك أحياناً علماء السنة من باب الإلزام، وكما قلت: إن باب الإلزام لا بأس به بقصد إبطال البدع والمخالفات للسنة، لكن إذا ذكر الإلزام على أنه مذهب فلا.
وأما الجملة الثانية وهي التي قلنا أنها متضمنة في المذهب، فهذه لا يجزم بها، فقد يخالفها أصحابها عند التحقيق، ولهذا ترى أن أبا الحسن الأشعري رحمه الله في كتاب مقالات الإسلاميين لما ذكر مذهب الجهم بن صفوان: أن الإيمان هو المعرفة، ذكر أن المعرفة عند الجهم بن صفوان تتضمن المحبة والتعظيم والإذعان والقبول، فكأن الإشكال جاء من لفظ المعرفة، فكأنه فهم منه العلم المحض الذي لا يكون معه قياداً أو قبول أو رضا أو إذعان أو محبة.
ولكن أبا الحسن لما فسر قول جهم، قال: إنه يريد بالمعرفة العلم مع المحبة والقبول، فإذا كان هذا تفسيره لقول الجهم، والجهم هو شرٌ من قال في الإيمان من المرجئة، فمن باب أولى أن يكون هذا مراد للأشعري في قوله.
ولهذا من حكى عن أبي الحسن الأشعري أنه لا يجعل أعمال القلوب داخلةً في اسم الإيمان، وأن الإيمان عنده تصديق محض، بمنزلة المعرفة المحضة، فقد غلط.
إذاً يفرق بين ما كان من أقوال المخالفين مذهباً مطابقاً وبين ما كان متضمناً في المذهب لا نجزم بإثباته ولا نجزم بنفيه، وبين ما كان لازماً، فهذا نجزم بنفيه، ولكننا نستعمله لإبطال المذهب.
ولا شك رغم هذا كله أن ذكر السلف وأهل السنة لأقوال أهل البدع، أشرف وأفضل وأعدل من ذكر أهل البدع لأقوال أهل السنة والجماعة.
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:١٥٨]].
هذه الآية على ظاهرها وهي كالآية السابقة، وفيها تفريق بين إتيانه سبحانه وتعالى وبين إتيان الملائكة وبين إتيان آياته.
وهذه الآية أفصح في الجواب عن إيراد أورده بعض الأشعرية، فإنهم لما قيل لهم: إن العلم بالمحذوف في قول الله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ} [البقرة:٢١٠] علمٌ ممتنع، قالوا: وليكن ممتنعاً؛ لأن المحذوف لما امتنع العلم به كان أجل قدراً، فحين لم يذكره الله وجعل ظاهر السياق مضافاً إليه دل ذلك على أن المحذوف شيء عظيم، لكن ما هو؟ الله أعلم به.
فجعلوا كأن من المقصود أن نعلم أنه محذوف، ولكننا لا نعلم تعيينه.
فيقال لهم: إن هذا مع ما فيه من التكلف ترده الآية الثانية وهي قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام:١٥٨] مع أن: (بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) هذه كلمةٌ مجملة، فدل هذا على أنه يمتنع أن يكون هناك محذوف مضاف إلى الرب.
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا * وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر:٢١ - ٢٢]، وقوله: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلًا} [الفرقان:٢٥]].
في هذه الآية ذكر مجيء الله سبحانه وتعالى، والمجيء والإتيان ذكرا في القرآن باعتبار المحل، على محلٍ واحد وهو يوم القيامة، ولكن لا يقال: إن المجيء هو الإتيان أو الإتيان هو المجيء، وأن هذا من باب الترادف، والصواب -كما أسلفت- أن يقال: إن الله سبحانه وتعالى يتصف بالمجيء ويتصف بالإتيان، ولا يجوز أن يقال أن هذا مرادف لهذا؛ لأن تمام المعاني اللائقة به سبحانه وتعالى هي من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله.