للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الرد على استدلال المعتزلة]

الصواب: أن الآيتين ليس فيهما دليل على ذلك.

وللرد على ذلك نقول: من المعروف في طرق النظر والمنطق: أن الدليل الذي يرد من المعارض إما أن يجاب بمنعه، وإما أن يجاب بنقضه، وإما أن يجاب بقلبه، إلى غير ذلك من الصور، وأقواها القلب، أي: قلب الدليل.

وثمة قاعدة: أنه ما من دليل من العقل أو النقل يستدل به المعارض لمذهب أهل السنة والجماعة على قول من أقواله، إلا ويعلم أن هذا الدليل النقلي أو العقلي لا يدل على قوله، والعلم بعدم دلالة الدليل من النقل أو العقل على قول هذا المبتدع أو المخالف علم ضروري، ووجه كونه ضرورياً من جهة كون النقل -الكتاب والسنة- يمتنع أن يدل على الباطل، فإنه لو فرض جدلاً أن الدلالة ممكنة أو صحيحة للزم أن الباطل في هذه المسألة يلزم أن يكون صحيحاً أو على أقل تقدير يمكن أن ينتزع وجهاً من كلام الله أو كلام رسوله.

ولهذا -وهذا علم بدهي- كانت سائر الأدلة التي يستدل بها المخالف للحق من الكتاب والسنة لا تدل على كلامه لتعليل عقلي ضروري، وهو أن الحق -وهو النقل- لا يمكن أن يدل على الباطل، ولا يقتضيه، ولا يسوغه ولو على جهة الإمكان العامة.

والعقل كذلك، فما من دليل عقلي يستدل به المخالف على قوله، إلا ويعلم أن هذا الدليل إما أن يكون ليس عقلياً، وإذا صح كونه عقلياً امتنع دلالته، فإما أن يفسد كونه عقلياً: أي يُبطل بالعقل، وأن العقل يمنع الدليل من جهة العقل نفسه، بمعنى أنه لا يمكن أن العقل يدل على نقيض الحق؛ فهذا ما يسمى بمنع الدليل، فتكون قاعدته: أنه ما من دليل من العقل أو النقل استدل به مخالف للحق إلا ويعلم عدم دلالته، فالنقل يعلم أنه ليس بدليل، أو أن النقل لا يكون صحيحاً كحديث موضوع يروى وهو ليس بصحيح، أو يكون العقل عقلاً ليس صحيحاً، وإنما هو قياس فاسد أو وهم من أوهام العقل.

وتعلم أن الدليل الذي يسمى عقلاً -حتى عند أصحابه- ليس وجهاً واحداً.

وهنا جهة أخرى، وهي ما يسمى بقلب الدليل، وابن تيمية رحمه الله يقول: إنه ما من دليل من النقل، استدل به المخالف على قوله إلا وهو عند التحقيق يدل على نقيض قوله، وهذه درجة ما يسمى قلب الدليل، وقلب الدليل ليس -عند التحقيق- لازماً، وإنما اللازم أن الدليل لا يدل على الباطل، أما أن الدليل المعين الذي استدل به على الباطل يدل على الحق، فهذا ليس بلازم، كضرورة شرعية أو كضرورة عقلية، وليس بدهي التحصيل، ولهذا ابن تيمية يقول: إنه تحصل له أنه ما من دليل استدل به معارض في مسائل الصفات وغيرها إلا وهو عند التحقيق يدل على نقيض مقصوده، أي: يدل على الحق.

واستعمل لهذا كلام المعتزلة في هذا الدليل، فقال: إنهم استدلوا على إنكار الرؤية بقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن هذه الآية جاءت في سياق المدح، وهذا بدهي، قال: والمدح لا يكون بالعدم المحض، إنما يكون بالأوصاف الثبوتية، سواء كان هذا الثبوت ثبوتاً جاء على طريقة الابتداء، أو جاء ثبوتاً متضمناً لنفي، يعني تركب مع نفي، بمعنى أن النفي المحض حقيقته أنه عدم محض، والعدم المحض يقول ابن تيمية: ليس شيئاً، وإذا كان ليس شيئاً امتنع أن يكون مناطاً للكمال؛ لأن مناط الكمال لا بد أن يكون معنىً وجودياً، أو معنىً ثبوتياً، ومن هذه الجهة قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الكمال لا يكون بالنفي المحض، بل لا بد أن يتضمن أمراً ثبوتياً.

قال: فلما قال سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] لا بد أن يكون تضمن معناً ثبوتياً، ومن هذا الوجه يقرر ابن تيمية رحمه الله أن الآية تدل على أن الله سبحانه وتعالى لا تدركه الأبصار، وإن كانت تراه.

بهذا التحقيق يكون الدليل مُنعت دلالته على طريقة المعتزلة وصار دليلاً للحق، هذه الطريقة التي استعملها شيخ الإسلام، أشاد بها ابن القيم رحمه الله، وذكر أن الإمام ابن تيمية له هذا الوجه الحسن، وهو وإن كان ذكر هذا، لكنه نقله عن غيره، وقد ذكر هذه الطريقة أبو الحسن الأشعري في إثبات الرؤية، وقال: إن المعتزلة يجاب عليهم بهذه الطريقة، لكن لك أن تقول: إن تقرير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذا الوجه في الآية أجود من تقرير أبي الحسن الأشعري، ولكن أصل التقرير هو لـ أبي الحسن الأشعري، وقد يكون الأشعري نقله عن غيره من علماء أهل السنة والجماعة.

فالمقصود: أن الآية نفت الإدراك، والإدراك -كما يقول ابن تيمية - قدر زائد على أصل الرؤية، فلما خص القدر الزائد بالنفي دل على أن ما دونه يكون ثابتاً.

الآية قالت: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام:١٠٣] والإدراك البصري هو تحقيق الإبصار، وليس مطلق الإبصار، فإنك تقول: رأيت فلاناً، ولا يلزم أنك أدركته، إنسان رأى قادماً من بعيد لا يلزم أنه أدركه، أهو رجل أو امرأة، وإذا كان رجلاً أهو زيد أم عمر، ففرق بين مطلق الإبصار وبين تحقيقه بالإدراك.

والآية إنما نفت القدر الزائد على الأصل، قال شيخ الإسلام: فلما خص القدر الزائد بالنفي، وهو الإدراك، دل على أن ما دونه وهو مطلق الإبصار يكون ثابتاً، فصارت الآية دليلاً على إثبات الرؤية، وهذا استدلال متين من جهة العقل والشرع.

وكذلك الآية الثانية عند المعتزلة ونفاة الرؤية، وهي قوله: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:١٤٣] قالوا: إن الله نفى رؤيته، و (لن) في لسان العرب تقتضي تأبيد النفي، وهذا محله النظر في كلام العرب، وإذا اعتبرت كلام العرب فالتحقيق أن (لن) وإن كانت تقتضي تأبيد النفي في بعض سياقاتها، إلا أنها لا تستلزم تأبيد النفي، ولهذا ليس من الصواب أن يقال: إن (لن) في كلام العرب لا تقتضي تأبيد النفي، وهذا من أجوبة النقض البسيطة التي ليست صحيحة، بل (لن) تقتضي التأبيد في بعض سياقاتها، وإنما الصواب يقال: إن (لن) لا تستلزم التأبيد، وإن كانت تقتضيه بحسب ما يوجبه السياق، وهذا السياق -وهو قوله: (لَنْ تَرَانِي) لا يقتضي التأبيد؛ لأن المخاطب موسى عليه الصلاة والسلام، وهو في حالٍ من دنياه وحياته الدنيوية، فهو في هذه الحال لن يرى ربه، أي: في حال حياته ودنياه، ولا يدل هذا على أن موسى عليه الصلاة والسلام لن يرى ربه في الآخره، ولا دليل على ذلك من السياق، إنما انتزعته المعتزلة من هذا الحرف في العربية، وهو (لن)، ولو كانت (لن) تستلزم تأبيد النفي، لما جاز تحديد الفعل بعدها، لأن تحديد الفعل يقتضي قطع الغاية إلى منتهى معين، وهو قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:٨٠] فلما جاز تحديد الفعل بعدها في لسان العرب فيما نطق به القرآن، والقرآن نزل بلسانهم، دل على أن (لن) لا تستلزم تأبيد النفي، وإن اقتضته في بعض السياقات، وهذا السياق في قصة موسى ليس منها.

هذا ما يسمى بمنع الاستدلال، وهناك وجهٌ آخر وهو ما يسمى بقلب الاستدلال، وهذا أيضاً وجه ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وذكره أبو الحسن الأشعري وغيرهما، وإن كان ذكر شيخ الإسلام أتم له.

وهذا من أوجه: من أخصها وأجودها أن موسى سأل ربه أن يراه، ولو كانت رؤيته سبحانه وتعالى ممتنعة كما تقول المعتزلة والجهمية منكرة الرؤية، لكان القول برؤيته نقصاً في حقه سبحانه وتعالى، فيلزم أن موسى لم يكن عارفاً بتوحيد الله معرفةً تامة والمعتزلة وجميع منكرة الرؤية لا يقولون: إن الرؤية منفية؛ لأن النصوص لم تنطق بها، بل يقولون: إن الرؤية ممتنعة؛ لأن كمال الله يأبى ويمنع الرؤية.

فلو كان الكمال كما يدعون يمنع رؤيته، فنقول: إن مجرد سؤال موسى عليه الصلاة والسلام يعد دليلاً صريحاً على الإمكان.

والمعتزلة يقولون: من زعم أن الرؤية ممكنة كفر؛ فهم يرون أن هذا من نقص الله، وأن هذه كلمة كفر، ومجرد الزعم أن الله يمكن أن يُرى، حتى لو قال قائل: أنه لن يرى، مجرد تقرير الإمكان يعتبرونه تقريراً لنقص الله.

فموسى بسؤاله قرر الإمكان، وإذا تقرر الإمكان، فهذا هو مورد النزاع المحقق بين المعتزلة وأهل السنة، لأن المعتزلة ليس الإشكال عندهم النفي فقط، بل عندهم مقام فوق النفي وهو تقرير الامتناع.

ولهذا نقول: إن المعتزلة لا يمكن أن تستدل عند التحقيق بآية من القرآن على قولها، حتى لو سلمنا جدلاً باستدلالهم بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ) وبقوله: (لَنْ تَرَانِي) فالآيتان لا تدلان على مذهب المعتزلة، فالآيتان نفتا، والمعتزلة لا تنفي، وتسكت عن القول في مسألة الإمكان، وتقول: الله أعلم بالإمكان، بل هم يصرحون بامتناع الرؤية، أي يصرحون بنفي الإمكان، والآية نفت الوقوع ولم تنف الإمكان، بل آية موسى عليه الصلاة والسلام، فيها تصريح بالإمكان؛ لأن سؤال موسى تقرير للإمكان، ولو كان موسى عليه الصلاة والسلام يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى لا تمكن رؤيته، لما سأل ربه، ولو كان من تحقيق التوحيد امتناع رؤيته، كما تقول المعتزلة، وهذا يجعلونه من أصول التوحيد، ويسمونه باب الصفات، لو كان من توحيد الله أنه لا يرى وأن رؤيته ممتنعة للزم أن موسى بتقريره للإمكان كان جاهلاً بتحقيق التوحيد، وهذا ممتنع.

إذاً: سؤال موسى عليه الصلاة والسلام هو تقرير للإمكان، وهذا هو أصل مبدأ الإبطال لقول المعتزلة.

<<  <  ج: ص:  >  >>