[إثبات مكر الله بالكافرين وكيده لهم]
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:٥٤] وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:٥٠] وقوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:١٥ - ١٦]].
هذا إثبات لمكره سبحانه وتعالى بالكفار كما في قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:٣٠] وهذا النوع من الصفات لا يجوز أن يذكر في حق الله مطلقاً، وإنما يذكر كما ذكره الله، وهذا هو وجه كماله، أما إذا ذكر مطلقاً، فإن هذا ليس من الكمال في مقتضى العقل ومقتضى الفطرة.
وهناك طريقة يستعملها بعض أهل السنة، وهي أنهم يقولون: ذكر صفة المكر هو من باب المقابلة، وهذا التعبير لا أصل له في القرآن ولا في السنة ولا حتى في كلام الصحابة، وكأن فيه تضييقاً لمعنى الآية أو لمعنى الصفة، كما أن من جعل المكر صفةً مطلقة قد وسع ما لم تدل الآية على توسعته.
ففيما يظهر أن قولهم: (إن هذا على سبيل المقابلة) ليس فاضلاً؛ لأنه يوحي بقدرٍ من التضييق لمعنى الصفة، فكأن معناه على قولهم: أنه لا يمكر إلا عند مكرهم، فإذا مكروا مكر بهم، وهذا لا يلزم في وصف الله سبحانه وتعالى، والآية لم تدل عليه، فإن الله يقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:٣٠]، فجعل الفعل من جهته مستقلاً، والفعل من جهتهم مستقلاً، والمقابلة إنما يصح ادعاؤها على مثل سياق: (فإذا مكروا مكرنا) أو (فإذا مكروا مكر الله بهم) هذا هو الذي يكون من باب المقابلة.
فإن المقابلة كمصطلح كأنها بمعنى الشرط في كلام أهل اللغة، والمشروط لا بد من وجود شرطه، وهذا فيه تضييق للآية أو للصفة؛ فإن القرآن ذكرها مختصة، ولكنها في سياقٍ مقيد، فهذا هو الوسط في فقه الآية، وهو الصواب، وهو الذي يجب التزامه؛ لأن هذا هو الذي ذكر في الآية.
فلا يقال أن هذا من باب المقابلة، لأنه يفهم منه أن هذا الصفة لا تقع إلا بعد وقوعها منهم، وهذا ليس بلازم، ومن قال هذا فقد تكلف ذكر ما لم تذكره النصوص ولا تقتضيه أصول الكمال الذي يتصف الرب به، فلا يقال أنها من باب المقابلة، كما لا يقال أنها صفةٌ مطلقة كصفة العلم، بل يقال: إن الله سبحانه وتعالى يمكر، ومكره سبحانه وتعالى يكون بالكفار؛ قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:٣٠].
والفاضل في مثل هذه الصفات أنها إذا ذكرت بتقرير من المتكلم: أن تذكر ويذكر سياق الآية معها، فيقال مثلاً: ومن صفاته أنه يمكر بالكافرين، كما في قوله تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:٣٠] ومن صفاته أنه يكيد لأعدائه كما في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:١٥ - ١٦].
فإذا قال قائل: وإذا أردنا أن نذكر مثل هذه الصفات دون ذكرٍ للشواهد، إنما أردنا أن نقرر كلاماً مختصراً، قيل: هذه قلة أدب وتكلف، ولا أحد يلزمك أن تذكر ذلك بدون ذكر الآية، ومثل هذه الأسئلة لا يلزم أن تجيب عنها كما يريد السائل، بل يكون الجواب أنه يجب أن تلتزم السنة.
فلما كانت الآية قد تشكل على بعض العامة كان الصواب والشرع أن تذكر ويذكر سياقها من كلام الرب سبحانه وتعالى؛ فإن هذا هو الأعدل.
ويلاحظ أحياناً حتى على بعض طلبة العلم ولا سيما الشباب المبتدئين في تعلم العقيدة السلفية، أنهم أحياناً يتكلفون في تقرير بعض الصفات وفي أوجهها، ويوردون عليها كثيراً من الأسئلة ثم تجد أن هذه الأسئلة يكون فيها تسلسلٌ يطرد، وهذا ينافي الهدي الذي كان عليه السلف رحمهم الله، من حيث التعظيم لكلام الله سبحانه وتعالى حتى في غير هذا الباب، فكيف إذا كان هذا في باب أسماء الرب سبحانه وتعالى وصفاته الذي ينبغي أن يحفظ على قدر من التوقف؟! وإلا فما معنى قولنا: أن السلف يجعلون هذا الباب من الأبواب التوقيفية؟ فهو توقيف في أصله وتوقيف في التعبير عنه، وليس معنى ذلك أن لا يعبر بالمعاني المناسبة لتفسير الآيات! كلا.
ولكن يجب أن يكون المعنى الذي تفسر به الآية موافقاً لسياقها، وألا يكون فيه خروج عن مادة السياق.