[الجمع بين مقامي العلو والمعية]
قال المصنف رحمه الله: [وليس معنى قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد:٤] أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق].
نهى السلف عن التأويل الذي استعمله أهل البدع، وقد استشكل بعض المتكلمين المتأخرين ذلك وقالوا: إن السلف وقع في كلامهم مادة من التأويل، وذلك في مسألة المعية، حيث قالوا في آيات المعية العامة: إن الله مع الخلق بعلمه، وفي مثل قوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] أن هذا من باب المعية الخاصة، ومقتضاها النصر والتأييد، فقالوا: إن الأولى معناها العلم والإحاطة، والثانية معناها النصر.
فظن المتكلمون أن هذا من باب التأويل، والأمر ليس كذلك؛ لأن التأويل باصطلاح أصحابه خروج عن المعنى الظاهر إلى المعنى الخفي لقرينة، أو خروج من حقيقة الكلام إلى مجازه، وآيات المعية ليس فيها خروج عن الحقيقة إلى المجاز ولا عن الظاهر إلى الخفي.
ولهذا من قال: إن قول السلف في معية الله العامة، أن الله معنا بعلمه، من قال: إن هذا تأويل، يرد عليه بعدة ردود.
ومن أخص الردود البينة القوية أن يقال: إذا كان هذا هو التأويل، فما هو الأصل؟ لأن المعتزلة حين قالوا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥] استولى، قلنا: هذا تأويل، سيقول لك قائل: إذا سميت الاستيلاء تأويلاً، فما هو الحقيقة والأصل؟ تقول له: الحقيقة والأصل: العلو، فمعنى (استوى): علا على العرش.
إذاً: إذا قال أهل البدع: إن السلف أولوا المعية، فقالوا: إن الله معنا بعلمه، قلنا لهم: إذا سميتم هذا تأويلاً كان ذلك التأويل هو المعنى المجازي للسياق، باصطلاح أهل التأويل، فما هو المعنى الحقيقي للسياق الذي خرجنا عنه؟
فباتفاق الناس من أهل التأويل وأهل البدع أو من أهل السنة أن التأويل يستلزم أو يقتضي ثبوت أحد معنيين أحدهما الحقيقة أو الأصل أو الظاهر، وهو المتبادر، والثاني: إما أن يسمى مجازاً أو خفياً أو خارجاً عن الأصل، لقرينة.
إذا قال المعترض: إن قول السلف في المعية: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] أنها معية بنصره، هو من التأويل، قيل له: إذا سميته تأويلاً فمعناه أنه معنىً مجازي، فأين حقيقة السياق؟ وأين ظاهر السياق؟ وأين أصل السياق من جهة المعنى؟ هنا لا مكان عنده إلا أن يقول: إن ظاهر السياق أن الله مع أبي بكر ورسوله بذاته، قلنا: هذا لا يمكن أن يكون ظاهر السياق، لأن ظاهر السياق هو المعنى المتبادر ابتداء من جهة اللغة.
ومن جهة العقل، ولا يتبادر لغة ولا عقلاً، أن الله بذاته مع الرسول وصاحبه، بل هذا ممتنع عقلاً، فلما كان ممتنعاً عقلاً، امتنع أن يسمى حقيقةً، بل المتبادر عقلاً والممكن عقلاً -وهو الواجب عقلاً- أن الله سبحانه وتعالى مطلع وحافظ وناصر لنبيه، ولهذا كل معية خاصة فهي تتضمن معنى المعية العامة ولا عكس، فقوله تعالى: {لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:٤٠] معية خاصة، تتضمن الحفظ والنصر وتتضمن أيضاً العلم والإدراك والإحاطة، فليس هذا من باب التأويل، هذه جهة.
الجهة الثانية: أن هذا ليس من باب التناقض أن الله سبحانه فوق سماواته، وأنه مع الخلق، لأن معيته بعلمه وفوقيته بذاته، وهناك فرق بين معنى الذات وبين معنى العلم، والمصنف هنا قال: لا توجبه اللغة؛ بمعنى أن كلمة (مع) في لسان العرب تقتضي مطلق المشاركة والمصاحبة بين الشيئين، ثم تكون هذه المصاحبة: إما بمعنى الذاتية، أو بمعنى العلم، أو بمعنى الإبصار، لا أحد يستطيع أن يحدد، إنما يقال: إن هذا بحسب ما يوجبه السياق، ولهذا لا يتعجب من بعض أهل البدع في ردهم على أهل السلف، يقولون: وظاهر آيات المعية أن الله بذاته مع الخلق، ثم يأتيك بقول من أقوال العرب في ذكر المعية الذاتية، وهذا غير ممتنع في لسان العرب، لكن السياق العربي يختلف.
ولهذا نجد في سياق كلام العرب ذكر المعية، ومعناها الإبصار، لا العلم ولا المخالطة الذاتية، مثل قولهم: (ما زلنا نسير والقمر معنا)، فهذه المعية ليست معية علمية ولا حفظاً ولا نصراً ولا هي معية ذاتية، إنما معناها الإبصار.
ونجد في كلام العرب ذكراً لحرف المعية، ويراد به الحفظ، أو النصر، أو العلم، أو المخالطة الذاتية، ولسنا نقول: إنه لا يوجد في لسان العرب مخالطة ذاتية، بل يوجد ذلك، لكن هذا مما يوجبه السياق، والمعية التي أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يَرِد في مقامها مسألة الاختلاط والحلول، لأن الله منزه عن هذا.
هذه جهة أن تقول: إن الله منزه، ولك أن تقول: إنها جهة سمعية عقلية.
ومن جهةٍ عقلية أخرى: لأنه منزه عن الحلول والاختلاط سبحانه وتعالى وتقدس عن ذلك، لأنه ممتنع، فهو ليس منفياً بخبر الشارع، هو منفي بخبر الشارع، ولكنه أيضاً ممتنع عقلاً.
قال المصنف رحمه الله: [بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر، أينما كان، وهو سبحانه فوق عرشه، رقيب على خلقه، مهيمن عليهم، مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته.
وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة].
يعني المصنف رحمه الله بذلك يعبر عن معاني صفاته في العلو وغيره بحروف القرآن والحديث، إلا أن يكون المخاطب يحتاج إلى تفصيل، فيعبر له بجمل من فصيح الكلام الذي ليس فيه إحداث وابتداع وليس فيه إجمال.
ولا تذكر الألفاظ المجملة الحادثة، في مقام صفاته سبحانه وتعالى، وإذا كان اللفظ مجملاً حادثاً، فهو يعرض عنه في تقرير عقيدة السلف.
ولهذا ينبغي الإعراض عن كلمة (ذاته) في المعية.
وأحياناً يقع السؤال: هل نقول: إن الله معنا (بذاته) معيةً علمية، فنذكر كلمة (ذاته) هذه على وفق قواعد السلف وقواعد الشرع والعقل؟
فأقول: إن معرفته سبحانه يعبر عنها بأحرف الكتاب والسنة، وقد يبين المعنى المراد المذكور في الكتاب والسنة بحروف من فصيح الكلام الذي استعمله الأئمة، أو بفصيح الكلام الذي لم يستعملوه؛ بشرط ألا يكون هذا الحرف الذي لم يرد في الكتاب ولا في السنة مجملاً حادثاً.
فإن الألفاظ المجملة الحادثة محل ذم عند السلف، فلا يجوزون استعمالها في أفعال الله وصفاته.
وإذا رجعنا لكلمة (ذاته) نجدها مكونة من كلمتين: كلمة (ذات) مضافة إلى الله على معنى الصفة أو الفعل أو الوجود نفسه، وهي بهذا المعنى لا أصل لها في القرآن ولا في السنة، فهي إذن حادثة.
الثاني منع استعمالها، والذي نهى السلف عن التعبير به هو اللفظ الذي جمع أمرين: الإجمال والحدوث، أما إذا كان حادثاً لكنه مفصل، فهذا لا بأس به، مثل قولهم: بائن من خلقه، فهذه الكلمة لم يقلها الرسول وليست في القرآن، لكنها من مفصل الكلام، فلا بأس بالتعبير بها، وكل لفظ مجمل حادث يمتنع التعبير به، فكلمة (ذاته) حادثة، وإن كانت وردت عن أبي هريرة في الصحيح: (لم يكذب إبراهيم النبي إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله) فهذه لها معنى آخر، أي: في طاعة الله ونصرة دينه .. إلخ.
أما كلمة (ذات) بمعنى الصفة أو الوجود نفسه فإنها لم ترد، فهي حادثة، لكن هل هي مجملة أم ليست مجملة؟
الإجمال: إما أن يكون من أصل الوضع، وإما أن يكون بحسب الاستعمال وطروء الأقوال التي توجب إجمال حرف من الحروف.
فكلمة (ذاته) إذا استعملت في مقام لا يحتمل الإجمال، كقولك: الله سبحانه وتعالى بذاته فوق سماواته، كان هذا استعمالاً صحيحاً، وإن كان لفظ (ذات) حادثاً إلا أنه في هذا السياق مفصل، لا يحتمل باطلاً، بل أريد به تصريح بالحق؛ فإن المخالف قد يقول: الله في العلو، ولكن هذا العلو ليس علو الذات، فيحتاج أن يقال: (بذاته) أما إذا استعملت كلمة (بذاته) في سياق المعية، فإنها تكون مجملة، لأن أصحاب الحلول والاتحاد يقولون: إن الله معنا بذاته، فكلمة (ذاته) توهم حلولاً، فأصبحت من هذا الوجه في هذا السياق المعين مجملة، وهي -كما قلنا- حادثة، ففي سياق المعية ينطبق على كلمة (بذاته) أنها مجملة حادثة، فهي إذن مما لا يعبر به.
وإن كانت المعية يمكن أن تفصل بمعنىً من الحق، فهذا باب آخر، ونحن نقصد هنا الحروف والألفاظ.
ولهذا يقال: لا يجوز التعبير بهذه الكلمة في سياق المعية؛ لأنها ليست من أصل النص ولا نطق بها القرآن ولا الحديث، ولما توهمه من الإجمال والإشكال.
قال المصنف رحمه الله: [مثل أن يظن أن ظاهر قوله: (في السماء) أن السماء تظله أو تقله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان].
بإجماع أهل العلم والإيمان وبإجماع العقلاء المؤمنين بحقه سبحانه وتعالى أن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون محتاجاً لشيء من مخلوقاته.
قال المصنف رحمه الله: [فإن الله قد وسع كرسيه السماوات والأرض، وهو يمسك السماوات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره].
محصل مسألة العلو هو أن الله فوق سماواته مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، وهو مع خلقه أينما كانوا مدركاً وعليماً ومحيطاً وحافظاً وناصراً لأوليائه المؤمنين، وأن المخالفين لهذا هم الجهمية ومن سلك سبيلهم من طوائف أهل البدع، وعباراتهم وألفاظهم في هذا شتى، منهم من يعبر فيقول: ليس له مكان، ومنهم من يعبر فيقول: لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا تعبير ابن سينا ومنهم من يقول: لا يقال: إنه داخل العالم ولا يقال: إنه خارجه، وهذا تعبير مقلدة ابن سينا كـ الرازي، وفرق بين التعبيرين، ابن سينا وأمثاله يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه، والرازي جاء وعدل في العبارة فقال: لا يقال: إنه لا داخل العالم ولا يقال: إنه خارجه، كإثبات نوع من الفرق بين قوله وقول الفلاسفة، وإلا فقوله في الأصل هو من جنس قول الفلاسفة.
وقابل مذهب النفاة من أهل التعطيل مذهب أهل وحدة الوجود وأهل الحلول من غلاة الصوفية المتفل