[إثبات صفة اليدين]
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥]].
هذه تثنية مضافة، ومما يثبته أهل السنة أن الله موصوف باليدين، وأن له يدين تليقان بجلاله سبحانه وتعالى، والقاعدة فيها كالقاعدة في سائر الصفات، وتأولها المخالف بالنعمة أو بالقدرة أو بالقوة، وهذه المعاني وإن كان أصلها يستعمل للفظ اليد في اللغة، إلا أن السياق هنا يمنع أن تفسر بذلك، لأن اليد هنا ذكرت مثناة ومضافة، والعرب إذا ذكرت اليد على سبيل التثنية المضافة، لم ترد إلا الصفة، ولا تريد القوة والنعمة وأمثالها.
قال المصنف رحمه الله: [وقوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:٦٤]].
هذه الآية دليل على إثبات صفة اليد له سبحانه وتعالى، وهنا ينبه إلى أنه في مقام التقريب لأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته لا يجوز أن يقال: إن اليهود كانوا مثبتين للصفات أكثر من إثبات المعتزلة أو من إثبات بعض أهل القبلة من المسلمين، فإن هذا الكلام قد يستعمله بعض من يريد الرد على المخالفين لأهل السنة والجماعة من أهل البدع.
أيضاً إذا نظرت إلى الجاهليين من العرب، وجدت أنهم لم يعارضوا الرسول صلى الله عليه وسلم في باب الصفات، وأقروا بجملة هذا الباب، ولم ينقل عنهم معارضة في تفسيره، ولكن هذا الإقرار العام والمجمل لا يلزم أن يكون محققاً على السنة والجماعة وطرق الأنبياء وما إلى ذلك، فهذا فيه تعذر كثير.
هذا إذا ذكر في شأن الجاهليين من العرب فإن الأمر يكون سهلاً ومقارباً، وأما إذا ذكر ذلك في شأن اليهود وأن اليهود كانوا مثبتين للصفات على التحقيق، وأنهم كانوا مقرين بها ولم يحرفوها ولم يخالفوها، فهذا فيه كثير من التكلف، وقد قالت اليهود: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:١٨١] وأسقطوا أصل الكمال الذي يتصف الرب به سبحانه وتعالى، وإذا أسقطوا أصل الكمال، فمن باب أولى أن يسقطوا تفصيله.
أما المخالفون من المسلمين فإنهم يقرون بأصل كمال الرب، وأنه مستحق للكمال منزه عن النقص.
وطالب العلم من أهل السنة ليس بحاجة إلى أن يفضل أقوال الكفار على أقوال بعض المسلمين، فإنها وإن فضلت من وجه، إلا أنها شرٌ من أوجه أخرى، والتفضيل المطلق هو المعتبر في الحكم والقياس، وأما التفضيل من وجه فهذا ليس له حكم؛ لأن الأحكام لا تضطرب.
ولهذا ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله فيه نوع من الزيادة فيما يظهر -والله أعلم- وذلك في قوله:
إن المعطل بالغواية معلنٌ ... والمشركون أخف في الكفران
فهذا لا يظهر تحقيقه، ولا شك أن المسلمين -مع ما فيهم من البدع- أقرب إلى السنة والقرآن من أهل الكفر.
وأما غلاة أهل البدع الذين وصفهم الأئمة بالزندقة، فمن ثبتت زندقته وإلحاده وخروجه عند السلف من الشريعة والديانة والملة، فهذا لا يمنع أن يكون قوله أشد كفراً وضلالاً ومباينة لمقاصد الأنبياء ورسالتهم من قول طائفة من أهل الكتاب أو طائفة من المشركين.
ولهذا نقول: إن المعتزلة -مثلاً- وإن تأولوا الصفات إلا أنهم لا ينفونها، بل يثبتون أحكامها، فإنه ليس هناك طائفة من طوائف المسلمين تنفي أحكام الصفات؛ فالمعتزلة وإن كانت لا تثبت قيام صفة العلم بذات الرب، وهذه بدعةٌ ليست سهلة، بل هي بدعة كفرية ولا شك، إلا أنهم يثبتون حكم العلم لله سبحانه وتعالى، وجميع المسلمين من أهل السنة وغيرهم يؤمنون بـ {أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:٢٣١] وإن قالت المعتزلة: إن العلم ليس صفةً مختصةً بذاته، بل هو عليم بذاته، وليس عليماً بعلم، هذا هو محل الخلاف عندهم، أما أن أحداً ينكر أن الله عليم فلا.
ولو أنكر المعتزلة ذلك وجردوا الرب عن العلم؛ بمعنى أنهم وصفوه بمقابله أو قالوا: إن الله ليس بعليم، لصح لنا أن نقول: إن اليهود والنصارى ومشركي العرب أخف كفراً من هؤلاء.
لكنهم يثبتون أحكام الصفة، ويرون كفر من أنكر حكم الصفة، ويكفرون من قال: إن الله لا يعلم الأشياء كليها أو جزئيها، ولهذا كفرت المعتزلة غلاة القدرية، مع أن المعتزلة هم القدرية، إلا أنهم كفروا الغالية الذين ينكرون علم الرب.
إذاً: الخلاف عندهم هل العلم صفة لله أم أنه عليم بذاته؟ هذا هو محل الجدل مع هؤلاء، وإن كان لا يسهّل في أقوالهم، إلا أنه ينبغي أن توزن بميزان الحق، ولا يخفف من كفر بعض الكفار؛ لأن اليهود قالوا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ) وقالوا: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) والنصارى قالوا: (إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ) وقالوا: (الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ) وقالت اليهود: إن الله استراح يوم السبت ..
إلى آخر ذلك.
وهذا لم يخطر بقلب مسلم من المسلمين لا من أهل البدعة ولا من أهل السنة، فينبغي أن تقرب الأقوال إلى حقائقها.