[اتباع أهل السنة لآثار النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه السلف الصالح]
قال رحمه الله: [فصل: ثم من طريقة أهل السنة والجماعة اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار].
(اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً) وذلك أن هذا الاسم -وهو أهل السنة والجماعة- ينظر فيه باعتبارين: باعتبار العقائد والأصول، فهذا القول فيه على الأصول المعروفة، وينظر فيه باعتبار منهجهم العام -أي: منهج أهل السنة والجماعة العام- وهذا يدخل فيه الأخلاق وأحكام التشريع، وهذا من جهة أن أئمة السنة والجماعة من المحدثين والفقهاء لهم منهج في التفقه، ولهم منهج في الأخلاق، وإن كان هذا المنهج الذي يُذكر لا يلزم أن يكون مختصاً بهم، وقد سبق معنا أن ما هو من عقائدهم لا يلزم أن يكون مختصاً بهم، ما من عقيدة من عقيدتهم إلا وقد يشاركهم فيما هو منها بعض الطوائف من المسلمين، ففي صفات الله لا طائفة من الطوائف تحقق باب الصفات كتحقيق السلف، لكن ليس كل الطوائف هم من النفاة ..
فقد وجد الأشعري وابن كلاب فأثبتوا بعض الصفات ونفوا بعضها.
إذاً ما من أصل من أصول أهل السنة إلا ويشاركهم فيما هو منه بعض المسلمين، أما التحقيق لأصل باطراد فهذا في الغالب أنه اختصاص عندهم، أما أن يكون غيرهم عنده من الأصول ما ليس عندهم، فهذا ممتنع، كذلك في باب التشريع وباب الأخلاق فإن غيرهم يشاركهم في هذا، لكن هديهم أكثر تحقيقاً، وهذا باعتبار أن منهج أهل السنة والجماعة منهج عام في العقائد والأصول، أو في التشريع أو في الأخلاق.
وإن كان اسم أهل السنة أو اسم السلفية أو السلف إذا تكلم به انصرف إلى القول في العقائد باعتبارها هي الأشرف وهي محل النزاع من جهة الأصل بين أهل القبلة، لكن مع هذا فإن من فقه الناظر في كلامهم -أعني كلام السلف أو كلام أهل السنة- أن يعتبر هذا المعنى العام: أن طريقتهم طريقة عامة، وهي الأخذ بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار؛ لأن هذا هو السبيل الذي أوجب الله به النجاة في مثل قول الله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:١١٥] فبيَّن سبحانه أن ثمة تلازماً بين طريق الرسول عليه الصلاة والسلام وسبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، قال: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء:١١٥] فدل على أن سبيل المؤمنين هو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنهم أخذوا وتلقوا عنه.
قال رحمه الله: [واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)].
هذه الوصية الجامعة هي حديث العرباض بن سارية في وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته أن يقتدوا بسنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وهم الخلفاء الأربعة، وهذا فيما يقرونه ويلتزمون به من الاجتهاد ويلزمون به الأمة، هذا معنى حديث العرباض في قوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء) المقصود بسنة الخلفاء هنا: هو اجتهادهم الذي يلزمون به الأمة، فإذا ألزم أبو بكر الأمة بأمر، فإنه يجب على الأمة أن تلتزم به كسنة شرعية، ليست سنة مصلحية تعرض وتزول، لكن إذا ألزم به أبو بكر فإنه يكون سنةً شرعية لا يجوز لأحد أن يخرج عنها، هذا هو وجه أن لهم سنة بخلاف غيرهم، فإن الأمر يكون على حسب المصالح والقياسات والنزاع العلمي إلى غير ذلك، وهذا من تسديد الله لهؤلاء الأربعة.
ولهذا فرع بعض أهل الأصول: هل اتفاق الخلفاء الأربعة الراشدين على رأي في مسألة ما حجة، أم ليس بحجة؟
والمأخذ من هذا الحديث لا يدل على أن قول أحد منهم أو حتى اتفاقهم يكون حجةً بذاته في المسائل التي مردها إلى النصوص، إنما هذا فيما يختصون به من النوازل وما يتعلق بالمصالح المرسلة التي تعرض في زمنهم، فيكون هذا من تمام الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم.
وإذا قيل: إن الصحيح أن هذا الاتفاق ليس حجةً بذاته، لا يفهم منه أنه يخالف قولهم، لأنه لم يحفظ مسألة من مسائل العلم -أي: في مسائل التكليف- قد أجمع الخلفاء الراشدون فيها على قول وكان هذا القول ليس راجحاً فاحتجنا أن نرجحه بكون إجماعهم حجة، بل تجد أنهم إذا اتفقوا وحرر اتفاقهم على قول فلا بد أن يكون هذا القول عليه دلائل من السنة تغني عن النظر في قولهم هل هو حجة أو ليس بحجة.
ولذلك لا توجد مسألة اتفق عليها الخلفاء الراشدون وقولهم فيها مخالف لظاهر الأدلة، اللهم إلا أن يكون هذا من باب عدم الضبط لأقوالهم، كما ذكر كثير من فقهاء الشافعية مثلاً: أن مما اتفق عليه الخلفاء أن لحم الإبل لا ينقض الوضوء، فهذا ليس عن الخلفاء الراشدين فيه اتفاق، وكأنهم -كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله- دخل عليهم أن الخلفاء الراشدين كانوا يظهرون عدم الوضوء مما مست النار، وكان الوضوء مما مست النار مشروعاً في أول الإسلام، ثم نسخ، فكان آخر الأمرين ترك الوضوء مما مست النار، فبعض الصحابة بقي عنده بقية في هذه المسألة، فكان الخلفاء وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يظهرون عدم الوضوء مما مست النار، حتى لا يلتبس هذا على المسلمين، فظن من ظن من فقهاء الشافعية أنهم لا يرون الوضوء من لحم الإبل، لأن هذا الفقيه من متأخري الشافعية بناه على أن لحم الإبل إنما وجب الوضوء منه لكونه مسته النار.
فهذا من جنس من يقول: إن لحم الإبل قد نسخ الأمر بالوضوء منه، والأمر ليس كذلك؛ لأن حديث جابر بن سمرة والبراء بن عازب يدلان على أن هذا كان بعد النسخ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له: (يا رسول الله! أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: لا -وفي رواية قال: إن شئت- قيل: أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم) فلو كان هذا قبل النسخ لكان جوابه عن سؤال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ أن يقول: نعم، لأن لحم الغنم قد مسته النار، فلما قال: (إن شئت)، وفي رواية قال: (لا) أي: لا تتوضأ من لحم الغنم دل على أن هذا كان بعد النسخ، إنما الخلاف الذي يتوجه في مسألة لحم الإبل: هل قوله: (نعم) أراد به الرسول عليه الصلاة والسلام الإيجاب، أم أراد به الاستحباب؟
هذا الخلاف هو الذي يتوجه عند التحقيق، وكأنه هو مأخذ المتقدمين في المسألة الذين صح عندهم الحديث في هذا، أما أن ترد إلى هذا المعنى أن هذا من النسخ فهذا الحديث ظاهره يمنعه، فالمقصود من هذا أن لحم الإبل على الراجح في المسألة كما هو معروف مما يجب الوضوء منه، وهو مذهب أحمد خلافاً للأئمة الثلاثة، لكن يبقى أن المسألة من مسائل النزاع المعروفة بين المحدثين والفقهاء.
ونتيجة هذا: أن الخلفاء الراشدين لا يجمعون على ما يخالف ظاهر السنة والكتاب.