[التأويل ومعانيه]
قال المصنف رحمه الله: [من غير تحريف ولا تعطيل].
عبَّر المصنف هنا بلفظ التحريف، ومراده التأويل؛ إذ لا توجد طائفة من طوائف المسلمين تُصرِّح بأن شيئاً من كتاب الله يقبل التحريف، أو أن ما تقوله في القرآن هو من باب التحريف، لا في باب الأسماء والصفات ولا في غيره، واللفظ المستعمل في هذا المراد هو لفظ التأويل، لكن المصنف لم يقل: من غير تأويل؛ لأن لفظ التأويل لم يرد في النصوص القرآنية والنبوية ولا حتى في كلام الصحابة مورد الذم، بل ذُكر مورداً فاضلاً مناسباً، فإن التأويل في كتاب الله أو في سنة نبيه إما أنه يقع على معنى الحقيقة التي يئول إليها الشيء، وإما أنه يقع على معنى التفسير.
وإذا تحققت في النظر وجدت أن المعنى الأول والثاني مادتهما واحدة، فالكل تفسير: إما تفسير المعاني، وإما أن يكون الحقيقة التي يئول إليها الشيء.
وعلى مثل هذا المعنى وذاك جرى الخلاف بين طائفة من السلف في الوقوف على قول الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:٧] فإنه إذا وقف هاهنا كان المراد الحقيقة التي تئول إليها الأشياء، وهذه الحقيقة التي يؤول إليها أمر الغيب اختص الله سبحانه وتعالى بعلمها، وإذا كان الوقوف على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:٧] كان التأويل هنا بمعنى التفسير، فإن تفسير القرآن يعلمه الراسخون في العلم.
فهذا المعنى وذاك المعنى هو المستعمل في كلام الله سبحانه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم للتأويل.
وأما التأويل الذي قال فيه أصحابه ونظَّاره: أنه صرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز لقرينة؛ فإن هذا التأويل بهذا الحد ليس له معنى يعرف لا في لسان العرب ولا في كلام الصحابة؛ فضلاً عن أن يكون مراداً في نصوص الكتاب والسنة.
فمراد المصنف هنا حين قال: (من غير تحريف)؛ أي: من غير تأويل، ولكنه لم يعبر بلفظ التأويل؛ لأن لفظ التأويل لم يرد مورد الذم في النصوص، وإنما الذي ذمه الله في كتابه هو التحريف الذي وقع فيه أهل الكتاب من قبل.
فمن تأوَّل صفات الباري على غير معناها، وعلى غير موردها من جهة اللغة، فهو في نفس الأمر قد وقع في قدر من تحريف معاني الكتاب والسنة، ومن هنا ناسب أن يسمى المصنف هذه الطريقة المستعملة عند المتكلمين تحريفاً.
وهذا التأويل هو مسألة نظرية بخلاف مسألة التعطيل؛ حين قال المصنف: (من غير تحريف ولا تعطيل)؛ فإن لفظ التعطيل ليس لفظاً نظرياً عند أصحابه.
والتعطيل لفظ أطلقه السلف على طريقة الجهمية ومن شاركهم فيها من المعتزلة أو غيرهم، ومعناه: الخلو والفراغ، فهم لما نفوا صفات الباري عطَّلوا الباري عن كماله اللائق به.
وهذا دارج في كلام أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين؛ وهو أنهم يسمون نفي الصفات تعطيلاً؛ أي: تفريغاً عن الكمال.