للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

أما هذا الإجماع على أنه كان مزاحا مهذارا فهي دعوى كبقية دعاواه التي لم يقم عليها دليل، ولم نجد أَحَدًا من العلماء الأثبات قال شيئا من هذا، فهذا ابن عبد البر في " الاستيعاب " لم يذكر شيئا منه، وهذا الحافظ ابن حجر في " الإصابة " لم يذكر إِلاَّ ما أخرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب المزاح "، والزبير بن بكار فيه، من طريق ابن عجلان عن سعيد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلاً قَالَ لَهُ: «إِنِّي أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَجِئْتُ أَبِي فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا، فَأَكَلْتُ حَتَّى شَبِعْتُ وَنَسَيْتُ أَنِّي صَائِمٌ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: " اللهُ أَطْعَمَكَ "، قَالَ: " فَخَرَجْتُ حَتَّى أَتَيْتُ فُلاَنًا فَوَجَدْتُ عِنْدَهُ لِقْحَةً تُحْلَبُ فَشَرِبْتُ مِنْ لَبَنِهَا حَتَّى رَوَيْتُ "، قَالَ اللهُ سَقَاكَ "، ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَهْلِي، فَلَمَّا اسْتَيْقَظْتُ دَعَوْتُ بِمَاءٍ فَشَرِبْتُ، فَقَالَ: " يَا ابْنَ أَخِي أَنْتَ لَمْ تَعَوَّدْ الصِّيَامَ "» ولم يصفه بأنه مزاح مهذار، وأما ابن كثير في " البداية والنهاية " فقد ذكر ما نقله المؤلف من قصص عنه، ولم يذكر قط أنه كان مزاحًا مهذارًا.

وَأَنَّى لهؤلاء العلماء الأجلاء أن ينطقوا بهذا الهجر من القول في حق صحابي جليل؟ وأشهد الله أنه ليس للمؤلف سلف في هذا التعبير إِلاَّ ما حكى عن النَظَّامِ وأمثاله، و «جولدتسيهر» المستشرق اليهودي - على ما عرف عنه مِنَ التَجَنِّي على الحديث والمُحَدِّثِينَ - كان أعف من المؤلف في التعبير، وإليك عبارته (١): «وتظهرنا طريقة روايته للأحاديث التي ضمنها أتفه الأسباب بأسلوب مؤثر على ما امتاز به من روح المزاح ... الخ ما قال» فانظر فرق ما بين العبارتين.

ثم ماذا ينقمون من أبي هريرة؟ أينقمون عليه أنه كان رجلاً فيه دعابة وفكاهة ومزاح لا يخل بدين ولا مروءة؟ فهذا مِمَّا ينبغي أن يعاب به شخص، ولم يخل عصر من العصور من علماء أجلاء كانت فيهم دعابة وخفة روح.

مُزَاحُ أَبِي هُرَيْرَةَ مُزَاحٌ عَالٍ مُفِيدٍ وَذِكْرُ أَمْثِلَةٍ مِنْهُ:

ومِمَّا ينبغي أن يعلم أن المزاح نوعان:

١ - نوع ساقط مبني على المجازفة وعدم التقدير لما يقول، وهو الذي يخل بالصدق والأمانة، ولم يكن عند أبي هريرة منه شيء والحمد لله.


(١) " دائرة المعارف الإسلامية ": ج ١ ص ٤١٨.

<<  <   >  >>