للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

تَقَدَّمَ وَجْهُ الْجَمْع بَيْنهمَا فِي أنه كان يعتقد أن بين الحديثين تمام التعارض وقد تقدم وجه الجمع بينهما في " بَابِ الْجُذَام " (١) ... قَالَ ابْنُ التِّينِ: لَعَلَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يَسْمَعُ هَذَا الحَدِيْثِ قَبْلَ أَنْ يَسْمَعَ مِنَ النَّبِيِِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَدِيْثَ " مْنْ بَسَطَ رِدَاءَهُ ثُمَّ ضَمَّهُ إِلَيْهِ لَمْ يَنْسَ شَيْئًا سَمِعَهُ مِنْ مَقَالَتِي " وَقَدْ قِيلَ فِي الحَدِيث المَذْكُور إِنَّ الْمُرَاد أَنَّهُ لاَ يَنْسَى تِلْكَ الْمَقَالَة الَّتِي قَالَهَا ذَلِكَ الْيَوْم لاَ أَنَّهُ يَنْتَفِي عَنْهُ النِّسْيَان أَصْلاً. وَقِيلَ: كَانَ الْحَدِيث الثَّانِي نَاسِخًا لِلأَوَّلِ فَسَكَتَ عَنْ الْمَنْسُوخ»، وقال القرطبي في " المُفْهَمِ ": " وَيُحْتَمَل اَيْضًا أَنَّهُمَا لَمَّا كَانَا خَبَرَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ عَنْ حُكْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لاَ مُلاَزَمَة بَيْنهمَا جَازَ عِنْده أَنْ يُحَدِّث بِأَحَدِهِمَا وَيَسْكُت عَنْ الآخَر حَسْبَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ الْحَاجَة ... وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون خَافَ اِعْتِقَاد جَاهِل يَظُنّهُمَا مُتَنَاقِضَيْنِ فَسَكَتَ عَنْ أَحَدهمَا، وَكَانَ إِذَا أُمِنَ ذَلِكَ حَدَّثَ بِهِمَا جَمِيعًا» (٢) وهكذا ترى أن النسيان ليس بمتيقن بل هو احتمال، وعن فرض تسليمه فلا تعارض بينه وبين حديث البسط، فهل بعد هذا يستحق أبو هريرة من هذا الطاعن السليط كل هذا التهكم والتثريب؟.

رَدُّ زَعْمِهِ فِي حَدِيثِ السَّهْوِ فِي الصَّلاَةِ:

وأما حديث السهو في الصلاة فقد اعتمد فيه المؤلف على ما ذكره الحافظ في " الفتح "، وقد استظهر الحافظ أن الشك من الرواة ثم جواز أن يكون من أبي هريرة لأجل رواية النسائي، وأنه مرة كان يجزم بتعيين الصلاة وَمَرَّةً كان يشك، وإليك ما ذكر الحافظ في " الفتح " (٣) لترى المؤلف يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء على حسب هواه قال: «وَالظَّاهِر أَنَّ الاِخْتِلاَفَ فِيهِ مِنَ الرُّوَاةِ. وَأَبْعَدَ مَنْ قَالَ: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ القِصَّةَ وَقَعَتْ مَرَّتَيْنِ، بَلْ رَوَى النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ اِبْنِ عَوْنٍ عَنْ اِبْنِ سِيرِينَ أَنَّ اَلشَّكَّ


(١) " فتح الباري ": ج ١٠ ص ١٩٩.
(٢) حديث «لاَ عَدْوَى» وحديث «فِرَّ مِنَ المَجْذُوم» وما شابهه كحديث: «لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» وقد وفق العلماء بين الأحاديث النافية للعدوى والأحاديث المُثبتة لها بمسالك عدة أحسنها أنَّ المراد بنفي العدوى أنَّ شيئًا لا يعدي بذاته وطبعه نَفْيًا لما كان أهل الجاهلية يعتقدونه من أَنَّ الأمراض تُعْدِي بطبعها من غير إضافة إلى الله فأبطل النَّبِيُّ اعتقادهم وأكل مع المجذوم ليُبَيِّنَ لهم أنَّ الله هو الذي يُمْرِضُ ويُشْفِي وحمل أحاديث النهي عن الدنو من المجذوم ونحوه بأنَّ هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها تقضي إلى مُسَبِّبَاتِهَا ففيها إثبات لقاعدة الأسباب وفي فعله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إشارة إلى أنها لا تستقل بالتأثير بل الله هو الذي إنْ شاء سلبها تأثيرها فلا تؤثِّرُ شيئًا وإنْ شاء أبقاه لها فتُؤَثِّرُ بإذنه تعالى.
(٣) " فتح الباري ": ج ٣ ص ٧٥.

<<  <   >  >>