المخالف لما ذكر، أما العلماء المُحَقِّقُونَ المُتَثَبِّتُونَ فقد احتاطوا غاية الاحتياط في التطبيق وَتَأَنَّوْا في الحُكْمِ بالمخالفة فمن ثم جاءت أحكامهم على الأحاديث ورواتها صائبة.
وفيما قدمته في بيان عناية أئمة الحديث بنقد السند والمتن وتحكيمهم القواعد الصحيحة وعدم مسارعتهم لرد ما ظاهره مخالفة العقل أو الحس أو السنن الكونية وغيرهما ما فيه الكفاية فكن على ذكر منه.
في [هامش ص ٢١٩] قال تحت عنوان «تدوين القرآن»: «مِمَّا يستلفت النظر البعيد ويسترعي العقل الرشيد أن عمر لما راعه تهاوي الصحابة في حرب اليمامة، وفزع إلى أبي بكر لكي يسارع إلى جمع القرآن وكتابته، لم يقل عنهم إنهم حَمَلَةُ الحديث بل قال: إنهم حَمَلَةُ القرآن ولم يطلب جمع الحديث وكتابته عندما فزع إلى أبي بكر بل جعل هَمَّهُ في جمع القرآن وحده وكتابته، بل إننا لم نجدهم وهم يجمعون القرآن ويدونونه - وكان ذلك على مشهد الصحابة جميعًا - قد اقترح واحد منهم أن يجمعوا الحديث ويكتبونه بل انحصرت عنايتهم في جمع القرآن فحسب، وفي ذلك أقوى الأدلة وأصدق البراهين على أنهم لم يكونوا يعنون بأمر جمع الحديث، ولا أن يكون لهم فيه كتاب محفوظ يبقى على وجه الدهر كالقرآن».
أليس ذلك من أقوى الأدلة على سوء نِيَّةٍ المؤلف وأن قصده التهوين من شأن السُنَّةِ حتى في نفوس الرعيل الأول من المسلمين وأنه في سبيل ذلك يحمل الكلام والحوادث ما لا تتحمل؟!!
إن الحكمة كانت تقتضي في ذلك الوقت المسارعة إلى جمع القرآن في مصحف واحد خشية أن يضيع شيء منه، أو من أصله المكتوب بموت جمهور القُرَّاءِ، أما الأحاديث فلم تكن الحاجة ماسة إلى جمعها حينئذ ولا سيما أَنَّ الأُمَّةَ لم تكلف بحفظ ألفاظها والتعبد بها كما كلفت بالقرآن، وأن المعول عليه فيها