الأفواه، وسهروا في سبيل ذلك الليالي الطوال، وقطعوا الفيافي والقفار، وطوفوا في البلدان والأقاليم، وضربوا في سبيل العلم والرواية، على ما كانوا عليه من قلة المؤنة وعسر وسائل السفر والارتحال، مُثُلاً عليا تجعلهم في عداد العلماء الخالدين.
وما زال العلماء يجمعون الأحاديث، وينقدون ويمحصون، ويؤلفون الصحاح والسنن والمسانيد حتى جمعت الأحاديث كلها تقريبا في القرن الثالث الذي يعتبر العصر الذهبي للأحاديث والسنن، وبانتهاء هذا القرن كاد ينتهي الجمع والابتكار في التأليف، والاستقلال في النقد والتعديل والتجريح، وبدأت عصور الترتيب والتهذيب، أو الاستدراك والتعقيب، وذلك في العصر الرابع وما تلاه من العصور.
وهكذا نخلص إلى هذه النتيجة:
وهي أن السُنَّة لم يطل العهد بعدم تدوينها، وأنَّ التدوين بدأ بصفة خاصة في عصر النَّبِي، وأنه قوي وغلظ عوده في عصر الصحابة وأوائل عصر التابعين، وأنه أخذ صفة العموم في أواخر عصر التابعين، ولم يزل يقوى ويشتد حتى بلغ عنفوانه واستوى على سوقه في القرن الثالث الهجري خاتمة القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرِيَّةَ، خيرِيَّةَ الإيمان والعلم والعمل، والهُدَى والفلاح والاستقامة على الجادة.
الرِّحْلَةُ فِي سَبِيلِ العِلْمِ:
لعل ما يتميَّز به أئمة العلم في الإسلام، ولا سيما أئمة الحديث وجامعوه كثرة الارتحال، وملازمة الأسفار، وقد جَرَوْا في ذلك على سُنَنِ الصحابة والتابعين لهم بإحسان، لقد كان الواحد منهم يبلغه الحديث بطريق الرُواة الثقات فلا يكتفي بهذا، بل يرحل الأيام والليالي حتى يأخذ الحديث عمَّنْ رواه بلا واسطة، وقد ثبت في " صحيح البخاري " تعليقاً بصفة الجزم أنَّ جابر بن عبد الله الأنصاري رحل مسيرة شهر إلى عبد الله بن أُنَيْسٍ (١) في حديث واحد، والقصة بتمامها - كما أخرجها البخاري في:" الأدب المفرد " وأحمد وأبو يعلى في " مُسْنَدَيْهِمَا " - من طريق عبد الله بن محمد
(١) بضم الهمزة مصغرًا، وهو جُهَنِيٌّ حليف للأنصار.