للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكذلك بعد اشتراطهم للضبط - على المعنى الذي قدَّمناهُ - يكون احتمال الغلط أو الخطأ في روايته احتمالاً بعيداً، وقد رَدُّوا رواية من كثر غلطه وغفلته وساء حفظه، وكذا من تساوى صوابه وغلطه واعتبروا حديثه مُنكراً، ومن ثَمَّ نرى أنَّ المُحَدِّثِينَ احتاطوا غاية الاحتياط في الرواية، ولم يأخذوا إِلاَّ عن العدل الفطن اليقظ، ونبذوا أحاديث المُغَفَّلِينَ والغالطين وأصحاب الأوهام، ولم يتسامحوا إِلاَّ في الغلط أو الغفلة النَّادِرَيْنِ اللَّذَيْنِ لا يسلم منها غالب البشر (١) وكم من رجل من أهل الديانة والأمانة ولكنه في نظرهم ليس أهلاً للرواية، وإليك بعضاً مِمَّا رُوِيَ عنهم في هذا.

صَحَّ عن ابن سيرين أنه قال: «إِنَّ هَذَا الْعِلْمَ دِينٌ، فَانْظُرُوا عَمَّنْ تَأْخُذُونَ دِينَكُمْ» وهذا هو إمام دار الهجرة مالك بن أنس - رَحِمَهُ اللهُ - يقول: «لَقََدْ أَدْرَكْنَا فِي هَذَا الْمَسْجِد سَبْعِينَ مِمَّنْ يَقُولُونَ: قَالَ فُلاَنٌ: قَالَ رَسُولُ الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإنَّ أحدهم لو اؤتمن على بيت مالٍ لكان أميناً عليه، فما أخذت عنهم شيئاً، ولم يكونوا مِنْ أهل هذا الشأن» وقال يحيى بن سعيد القطان: «كَمْ مِنْ رَجُلٍ صَالِحٍ لَوْ لَمْ يُحَدِّثْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُ» يريد مَنْ عنده غفلة وسُوءِ حفظٍ، وقال الإمام أحمد: «يُكْتَبُ الحَدِيثُ عَنْ النَّاسِ كُلِّهِمْ إِلاَّ عَنْ ثَلاَثَةٍ: صَاحِبُ هَوًى يَدْعُو إِلَيْهِ، أَوْ كَذَّابٌ، أَوْ رَجُلُ يَغْلِطُ فِي الحَدِيثِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ فَلاَ يُقْبَلُ» وقال سليمان بن موسى: «كَانُوا يَقُولُونَ - يَعْنِي أَئِمَّةَ الحَدِيثِ -: لاَ تَأْخُذُوا العِلْمَ عَنْ الصُحُفِيِّينَ» (٢)، يعني الذين يأخذون الأحاديث عن الصحف لا بالرواية لكثرة ما يقع لهم من الخطأ والتصحيف وعدم التمييز، والأئمة الذين جمعوا الأحاديث في كتبهم المشهورة كان الاعتماد عندهم فيها على الرواية، والتلقِّي شِفَاهاً من الرُواة العُدُولِ الضابطين، وإنما كانت الكتابة زيادة في الوُثُوقِ والضبط، وحتى يرجع إليها مَنْ لم يكن في درجتهم مِنْ طالبي الحديث مِمَّنْ سيأتي بعدهم.

عِنَايَةُ المُحَدِّثِينَ بِنَقْدِ الأَسَانِيدِ وَالمُتُونِ:

وقد عني المُحَدِّثُونَ عناية فائقة بنقد الأسانيد بحيث لم يَدَعُوا زيادة لمستزيد وقد خلَّفوا لنا في نقد الرجال ثروة هائلة ضخمة، منها ما ألِّف في الثقات، ومنها


(١) " جامع الأصول ": ١/ ٧٢، " شرح نخبة الفكر ": ص ٣٢ مطبعة الاستقامة.
(٢) " الآداب الشرعية " لابن مفلح: ٢/ ١٥٥ وما بعدها.

<<  <   >  >>