للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

بل ذهب بعض أجلة العلماء إلى أن الحديث الصحيح يفيد العلم اليقيني، وهو مذهب داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي، والحارث ابن أسد المحاسبي، وحكاه ابن خويز منداد عن مالك وهو الذي اختاره الإمام ابن حزم قال في " الإحكام ": «إِنَّ خَبَرَ الوَاحِدِ العَدْلِ عَنْ مِثْلِهِ إِلَى رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوجِبُ العِلْمَ وَالعَمَلَ [مَعًا]» وقد انتصر إلى هذا من المُتَأَخِّرِينَ العلامة المُحَدِّثُ الشيخ أحمد محمد شاكر - رَحِمَهُ اللهُ - فقال: «وَالحَقَّ الذِي تُرَجِّحُهُ الأَدِلَّةُ الصَّحِيحَةُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ ابْنُ حَزْمٍ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ مِنْ أَنَّ الحَدِيثَ الصَّحِيحَ يُفِيدُ العِلْمَ القَطْعِيََّ سَوَاءٌ أَكَانَ فِي أَحَدِ " الصَّحِيحَيْنِ "، أَمْ فِي غَيْرِهِمَا، وَهَذَا العِلْمُ اليَقِينِيُّ عِلْمٌ نَظَرِيٌّ بُرْهَانِيٌّ، لاَ يَحْصُلُ إِلاَّ لِلْعَالِمِ المُتَبَحِّرِ فِي الحَدِيثِ العَارِفِ بِأَحْوَالِ الرُّوَاةِ وَالعِلَلِ ... وَهَذَا العِلْمُ اليَقِينِيُّ النَّظَرِيُّ يَبْدُو ظَاهِرًا لِكُلِّ مَنْ تَبَحَّرَ فِي عِلْمٍ مِنَ العُلُومِ، وَتَيَقَّنَتْ نَفْسُهُ بنَظَرِيَّاتِهِ وَاطْمَأَنَّ قَلْبُهُ إِلَيْهَا .... » (١).

فأيا ما كانت أحاديث الدجال، فلا يجوز لمسلم أن ينكرها ولا مجال للتشكيك فيها، وكون النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخبر أنه من المحتمل ظهوره في عصره، ثم إخباره بأن ظهوره في آخر الزمان لا يكفي في الطعن في الروايات وتكذيبها لجواز أن يكون أوحى إليه بخبره وشأنه من غير تعيين لزمانه ففهم النَّبِيُّ جواز أن يكون في عصره، ثم بعد ذلك أعلمه الله - سُبْحَانَهُ - أن ذلك سيكون في آخر الزمان قبيل الساعة.

وإذا كانت أحاديث الدجال لا مطعن فيها من جهة الرواية، وأنها وردت من طرق عدة تبعد عنها الشك والريبة، فإنها كذلك لا مطعن فيها من جهة المعنى والدراية، فقد بين النَّبِيُّ في حديث آخر أنه سيكون هناك دجالون قريب من ثلاثين، وأن آخرهم الدجال الأكبر ففي " صحيح البخاري " «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَقْتَتِلَ فِئَتَانِ عَظِيمَتَانِ ... ، دَعْوَتُهُمَا وَاحِدَةٌ، وَحَتَّى يُبْعَثَ دَجَّالُونَ [كَذَّابُونَ]، قَرِيبٌ مِنْ ثَلاَثِينَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ... » ولأحمد والطبراني «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَخْرُجَ ثَلاَثُونَ كَذَّابًا


(١) المرجع السابق ": ص ٢٥.

<<  <   >  >>