للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبعد ذلك كان للأخلاق الدرجة الثانية من الاهتمام، فنزلت الآيات في فضيلة الصدق والصبر، والأمانة والوفاء، حتى إذا اكتمل مجتمع الإسلام، عقيدة وأخلاقا، وتوضحت القيم، والمثل العليا في السلوك، بدأ تشريع الأحكام، وذلك مع أول العهد المدني.

تمّ ذلك كله والخمرة ما تزال على إباحتها، يتداولها الصحابة في مجالس أسمارهم من غير حرج ولا نكير، إلا شيئا بدءوا يجدونه في قلوبهم من الريبة في أمرها، دفعهم أن يستبينوا أمرها مرة بعد مرة. والحكيم العليم- سبحانه وتعالى- أدرى بنفوس خلقه، وطبائع عباده.

ولا شك أن سلامة الاعتقاد، وحسن الأخلاق تقود تلقائيا إلى سلامة الطبائع، فصارت نفوسهم تشعر بالفضائل، وتتجه نحو الكمالات، فأصبحت تعرف الرذائل والنقائص، وتعمل على اجتنابها وتحاشيها، فبدافع ذاتي بدءوا يشعرون بأن الخمر منقصة ورذيلة، فصار الناضجون إيمانا منهم، لا يكتمون شوقهم وتمنيهم لحكم سماوي يحرم الخمر، بعد أن ظهر تحريمها من نداءات الفطرة السليمة، التي كشف الإسلام الركام عنها في نفوسهم، ومن مستلزمات الطباع القويمة التي صقلها الإيمان في أعماقهم.

وهذه الآية حلقة في سلسلة من التنزيل تعاقبت لبيان حرمة الخمر، وإنما استأنى بهم المولى سبحانه لإلفهم، وعادتهم، وكلفهم به، فلو أنه جزم في تحريمه مرة واحدة لشقّ ذلك عليهم، فكان أول ما نزل من ذلك قول الله عزّ وجلّ: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النّحل: ١٦/ ٦٧]، فقال بعض الصحابة: لو كانت الخمرة رزقا حسنا لما أفردها الله عنه بالذكر.

ثم نزل قوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [البقرة: ٢/ ٢١٩]، فقال بعضهم: يا رسول الله ننتفع بها ونشربها (١)، وقال بعضهم: بل نعرض عنها.

ثم نزل قول الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النّساء: ٤/ ٤٣]، فشربها من شربها منهم، وتركها من تركها، وجعلوا يتّقونها عند الصلاة، حتى شربها رجل يقال له أبو القموص، فجعل ينشد شعرا، يذكر فيه قتلى بدر يرثيهم،


(١) جامع البيان للطبري ٢/ ٢١٢.

<<  <   >  >>