بل مقتضى الدفاع أن تقدم ساعة الإقدام، وتحجم ساعة الإحجام، وتدرس نوايا عدوك، وتكشف طواياه وتدبيره، ففي عمل الدفاع كر وفر، ومصاولة ومنازلة، وإقحام وإحجام، ودرع وسيف، وحراب ورماح، وكل ذلك مقرر لدى الأمم كلها في نشاطها العسكري الدفاعي.
ففي كل وزارة دفاع في العالم دائرة عمليات، واستطلاع، وتجسس، ومداهمة، واقتحام، وكل ذلك يسمى نشاطا دفاعيا.
وإذا تقرر ذلك فإني أعتقد أن سائر صنوف الجهاد في الإسلام، تندرج تحت إطار العمل الدفاعي بعد تحرير مناطه، وتقرير مناشطه.
ففي بدر خرج النّبي صلّى الله عليه وسلّم يريد عير قريش، وهو منطق دفاعي مبرر؛ إذ الأموال التي نتجتها القافلة هي متاع المسلمين المهاجرين في مكة، ومن حقهم أن يحصلوا عليها بأي ثمن، ولما فرّت القافلة حضرت قريش في جيش قوامه ثلاثة أضعاف جيش النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وألجأته إلى حرب لم يكن قد قصدها، ولا سعى إليها، ونذكر بهذه المناسبة أن بدرا تبعد عن المدينة نحو (١٨٠) كم فيما تبعد عن مكة (٢٦٠) كم، وذلك كله يكشف لك من هو الطرف الغازي في هاتين الجهتين.
وفي أحد اعتصم رسول الله بمدينته، ثم خرج إلى جبل أحد على بعد نحو أربعة أميال من المدينة يدفع عنها غارة قريش والأحابيش.
وفي الخندق اعتصم النّبي صلّى الله عليه وسلّم في مدينته، وخندق على نفسه، ولم يلق أذنا لاستفزاز قريش، ولا لحماسة الشباب من أصحابه في عمل دفاعي صريح استمرّ نحو أربعين يوما، حتى ردّ الله الذين كفروا بغيظهم، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قويّا عزيزا.
ولعل ما يشكل في هذا الباب هو خروجه صلّى الله عليه وسلّم إلى حنين، والطائف لملاقاة ثقيف وهوازن، ولكن قراءة سريعة لهاتين الغزوتين تظهر أن ثقيف وهوازن كانت قد جمعت حشودا هائلة بغرض غزو مكة، وإخراج النّبي صلّى الله عليه وسلّم، حتى أصبح في وادي حنين ثلاثون ألفا من الحلفاء، كلهم مستعدّ للإغارة على مكة، فكان مقتضى الدفاع حينئذ أن يخرج إليهم النّبي صلّى الله عليه وسلّم بغارة الله فيصبحهم بعذاب وساء صباح المنذرين (١).
(١) انظر سيرة ابن هشام، وبحاشيتها الروض الأنف ٣/ ٢٩.