وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِغَيْرِهِمْ إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْحَرِيقَ فَيُسَلِّمَهَا إِلَى جَارِهِ، أَوِ الْغَرَقَ فَيُلْقِيَهَا إِلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى، فَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ ضَمِنَهَا، وَكَذَا إِنْ أَنْفَقَ بَعْضَهَا ثُمَ رَدَّ عِوَضَهُ وَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي، وَإِنِ اخْتَلَطَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ،
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
أَمَّا الْحِرْزُ فَدَارُهُ وَمَنْزِلُهُ وَحَانُوتُهُ، سَوَاءٌ كَانَ مِلْكًا لَهُ أَوْ إِجَارَةً أَوْ إِعَارَةً. وَأَمَّا الْيَدُ فَيَدُهُ وَزَوْجَتُهُ وَزَوْجُهَا وَأَمَتُهُ وَعَبْدُهُ وَأَجِيرُهُ الْخَاصُّ وَوَلَدُهُ الْكَبِيرُ إِنْ كَانَ فِي عِيَالِهِ عَلَى مَا مَرَّ فِي الرَّهْنِ ; وَلِأَنَّ الْمُودِعَ رَضِيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُودَعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْخُرُوجِ لِمَعَاشِهِ وَأَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَلَا يُمْكِنُهُ اسْتِصْحَابُ الْوَدِيعَةِ مَعَهُ فَيَتْرُكُهَا فِي مَنْزِلِهِ عِنْدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْ ذَلِكَ، وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ نَهْيُهُ لَوْ قَالَ لَا تَدْفَعْهَا إِلَى شَخْصٍ عَيَّنَهُ مِنْ عِيَالِهِ مِمَّنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عِيَالٌ سِوَاهُ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ كَانَ لَهُ سِوَاهُ يَضْمَنُ ; لِأَنَّ مِنَ الْعِيَالِ مَنْ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى الْمَالِ.
قَالَ: (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْفَظَهَا بِغَيْرِهِمْ) ; لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِحِفْظِ غَيْرِهِمْ، فَإِنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْأَمَانَاتِ وَصَارَ كَالْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ وَلَا يُضَارِبَ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّيْءَ لَا يَتَضَمَّنُ مِثْلَهُ.
قَالَ: (إِلَّا أَنْ يَخَافَ الْحَرِيقَ فَيُسَلِّمَهَا إِلَى جَارِهِ، أَوِ الْغَرَقَ فَيُلْقِيَهَا إِلَى سَفِينَةٍ أُخْرَى) ; لِأَنَّ الْحِفْظَ تَعَيَّنَ بِذَلِكَ، لَكِنْ لَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ إِلَّا بِبَيِّنَةٍ ; لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبًا لِإِسْقَاطِ الضَّمَانِ فَيَحْتَاجُ إِلَى بَيِّنَةٍ.
قَالَ: (فَإِنْ خَلَطَهَا بِغَيْرِهَا حَتَّى لَا تَتَمَيَّزَ ضَمِنَهَا) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِلْمُودِعِ عَلَيْهَا.
وَالْخَلْطُ عَلَى وُجُوهٍ: أَحَدُهَا الْجِنْسُ بِالْجِنْسِ كَالْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ، وَالدَّرَاهِمِ الْبِيضِ بِالْبِيضِ، وَالسُّودِ بِالسُّودِ. وَالثَّانِي خَلْطُ الْجِنْسِ بِغَيْرِهِ كَالْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ، وَالْخَلِّ بِالزَّيْتِ وَنَحْوِهِمَا. وَالثَّالِثُ خَلْطُ الْمَائِعِ بِجِنْسِهِ ; فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ اسْتِهْلَاكٌ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَيَضْمَنُهَا وَيَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُودِعِ عَنْهَا، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي ; لِأَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ صُورَةً وَمَعْنًى ; وَالْأَوَّلُ عِنْدَهُمَا إِنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِيهَا، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَهُ ; لِأَنَّهُ إِنْ تَعَذَّرَ أَخْذُ عَيْنِ حَقِّهِ لَمْ يَتَعَذَّرِ الْمَعْنَى فَكَانَ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَخْتَارُ أَيَّهُمَا شَاءَ. وَأَمَّا الثَّالِثُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ: يَجْعَلُ الْأَقَلَّ تَبَعًا لِلْأَكْثَرِ اعْتِبَارًا لِلْغَالِبِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ: هُوَ شَرِكَةٌ بَيْنَهُمَا بِكُلِّ حَالٍ ; لِأَنَّ الْجِنْسَ لَا يَغْلِبُ الْجِنْسَ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ أَصْلِهِ فِي الرَّضَاعِ، وَخَلْطُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّرَاهِمِ، وَالدَّنَانِيرِ بِالدَّنَانِيرِ إِذَابَةٌ مِنَ الْوَجْهِ الثَّالِثِ ; لِأَنَّهُ يَصِيرُ مَائِعًا بِالْإِذَابَةِ. وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إِلَى عَيْنِ حَقِّهِ، وَالْقِسْمَةُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الشَّرِكَةِ فَلَا تَكُونُ مُوجِبَةً لَهَا، فَلَوْ أَبْرَأَ الْمُودِعُ الْخَالِطَ بَرِئَ أَصْلًا، وَعِنْدَهُمَا يَبْرَأُ مِنَ الضَّمَانِ فَتَتَعَيَّنُ الشَّرِكَةُ فِي الْمَخْلُوطِ.
(وَكَذَا إِنْ أَنْفَقَ بَعْضَهَا ثُمَّ رَدَّ عِوَضَهُ وَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي) فَهُوَ اسْتِهْلَاكٌ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا.
قَالَ: (وَلَوِ اخْتَلَطَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ فَهُوَ شَرِيكٌ) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فَتَتَعَيَّنُ الشَّرِكَةُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute