للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي وَسَأَلَهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يَحْبِسْهُ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

وَالْإِرْثِ حَتَّى يَحِلَّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ أَكْلُ الْهِبَةِ وَالْمِيرَاثِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ فِيهِمَا. لَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إِنَّكُمْ لَتَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمُ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، وَإِنَّمَا أَنَا بَشْرٌ أَقْضِي بِمَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ مَالِ أَخِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ حَقِّهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» وَأَنَّهُ عَامٌّ فَيَعُمُّ جَمِيعَ الْحُقُوقِ وَالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ فِي الْبَاطِنِ كَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَمَّا الظَّاهِرُ فَالْحُكْمُ لَازِمٌ عَلَى مَا أَنْفَذَهُ الْقَاضِي.

قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا أَقْضِي بِالظَّاهِرِ وَاللَّهُ يَتَوَلَّى السَّرَائِرَ» وَلَهُ مَا رُوِيَ: أَنَّ رَجُلًا خَطَبَ امْرَأَةً وَهُوَ دُونَهَا فِي الْحَسَبِ فَأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ، فَادَّعَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا، وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عِنْدَ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَحُكِمَ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ، فَقَالَتْ: إِنِّي لَمْ أَتَزَوَّجْهُ وَإِنَّهُمْ شُهُودُ زُورٍ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ، فَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: شَاهِدَاكِ زَوَّجَاكِ وَأَمْضَى عَلَيْهَا النِّكَاحَ، وَلِأَنَّهُ قَضَى بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِحُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ فِيمَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فَيُجْعَلُ إِنْشَاءً تَحَرُّزًا عَنِ الْحَرَامِ، وَحَدِيثُهُمَا فِي الْمَالِ صَرِيحٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ، فَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ بِشَهَادَةِ الزُّورِ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: ١٨٨] وَرُوِيَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَمْلِكُ إِثْبَاتَ الْمِلْكِ بِدُونِ السَّبَبِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ مَالِ زَيْدٍ إِلَى عَمْرٍو.

أَمَّا الْعُقُودُ وَالْفُسُوخُ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ إِنْشَاءَهُمَا فَإِنَّهُ يَمْلِكُ بَيْعَ أَمَةِ زَيْدٍ وَغَيْرِهَا مِنْ عَمْرٍو حَالَ غَيْبَتِهِ وَخَوْفَ الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ يَبِيعُهُ لِلْحِفْظِ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ وَلَا وَصِيَّ لَهُ، وَيَمْلِكُ إِنْشَاءَ النِّكَاحِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ وَالْفُرْقَةَ فِي الْعِنِّينِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَثَبَتَ أَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْإِنْشَاءِ فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ، فَيُجْعَلُ الْقَضَاءُ إِنْشَاءً احْتِرَازًا عَنِ الْحَرَامِ، وَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ بِغَيْرِ أَسْبَابٍ فَتَعَذَّرَ جَعْلُهُ إِنْشَاءً فَبَطَلَ، ثُمَّ نَقُولُ: لَوْ لَمْ يَنْفُذْ بَاطِنًا، فَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِالطَّلَاقِ لَبَقِيَتْ حَلَالًا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بَاطِنًا وَلِلثَّانِي ظَاهِرًا ; وَلَوِ ابْتُلِيَ الثَّانِي بِمِثْلِ مَا ابْتُلِيَ بِهِ الْأَوَّلُ حَلَّتْ لِلثَّالِثِ أَيْضًا، وَهَكَذَا رَابِعٌ وَخَامِسٌ، فَتَحِلُّ لِلْكُلِّ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَفِيهِ مِنَ الْفُحْشِ مَا لَا يَخْفَى ; وَلَوْ قُلْنَا بِنَفَاذِهِ بَاطِنًا لَا تَحِلُّ إِلَّا لِوَاحِدٍ وَلَا فُحْشَ فِيهِ.

[[فصل الدليل على وجوب حبس من عليه الدين ومتى يجوز]]

فَصْلٌ الْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْحَبْسِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيُّ الْوَاجِدِ ظُلْمٌ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ» وَالْعُقُوبَةُ: الْحَبْسُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ السَّلَفِ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِبَ لِإِيصَالِ الْحُقُوقِ إِلَى أَرْبَابِهَا، فَإِذَا امْتَنَعَ الْمَطْلُوبُ عَنِ الْأَدَاءِ فَعَلَى الْقَاضِي جَبْرُهُ عَلَيْهِ، وَلَا يُجْبِرُهُ بِالضَّرْبِ إِجْمَاعًا فَتَعَيَّنَ الْحَبْسُ.

قَالَ: (وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ لِلْمُدَّعِي وَسَأَلَهُ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ يَحْبِسْهُ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُظْهِرْ ظُلْمَهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ ظَهَرَ ظُلْمُهُ وَجُحُودُهُ عِنْدَ غَيْرِهِ حَبَسَهُ.

قَالَ: (وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>