وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ إِلَّا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِيهَا، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ فَهُوَ عَلَى جِنْسِ مَالِ الزَّكَاةِ (ز) ، وَبِمِلْكِهِ عَلَى الْجَمِيعِ، وَيُمْسِكُ مَا يُنْفِقُهُ حَتَى يَكْتَسِبَ ثُمَ يَتَصَدَّقُ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ.
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
لَكَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَهُوَ مَحْمَلُ حَدِيثِ جَابِرٍ، «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى» إِلَّا أَنَّهُ مُحْتَمَلٌ، وَلَا تَثْبُتُ الْهِبَةُ بِالشَّكِّ فَتَكُونَ عَارِيَةً. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الرُّقْبَى جَائِزَةٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: دَارِي لَكَ تَمْلِيكٌ، وَقَوْلُهُ رُقْبَى شَرْطٌ فَاسِدٌ لَا يُبْطِلُ الْهِبَةَ. وَلَهُمَا حَدِيثُ شُرَيْحٍ، وَلِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْمِلْكِ بِالْخَطَرِ فَلَا يَصِحُّ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ يَكُونُ عَارِيَةً عِنْدَهُمَا ; لِأَنَّهُ يَقْتَضِي إِطْلَاقَ الِانْتِفَاعِ بِهِ، وَلَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَالِي أَوْ كُلُّ شَيْءٍ أَمْلِكُهُ أَوْ جَمِيعُ مَا أَمْلِكُهُ لِفُلَانٍ فَهُوَ هِبَةٌ ; لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَصِيرُ لِغَيْرِهِ إِلَّا بِتَمْلِيكِهِ، وَلَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَا يُعْرَفُ بِي أَوْ يُنْسَبُ إِلَيَّ لِفُلَانٍ فَهُوَ إِقْرَارٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَرِّ لَهُ، وَهُوَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ يُعْرَفُ بِهِ وَيُنْسَبُ إِلَيْهِ.
قَالَ: (وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ) فِي جَمِيعِ أَحْكَامِهَا لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ (إِلَّا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِيهَا) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الثَّوَابُ وَقَدْ حَصَلَ، وَكَذَا الْهِبَةُ لِلْفَقِيرِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ، وَكَذَا لَوْ تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ لِأَنَّهُ قَدْ يَطْلُبُ مِنْهُ الثَّوَابَ بِأَنْ يُعِينَهُ عَلَى النَّفَقَةِ لِكَثْرَةِ عِيَالِهِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ أَنَّهُ عَبَّرَ بِالصَّدَقَةِ عَنْهَا.
قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ فَهُوَ عَلَى جِنْسِ مَالِ الزَّكَاةِ) ; لِأَنَّ إِيجَابَ الْعَبْدِ مُعْتَبَرٌ بِإِيجَابِ اللَّهِ - تَعَالَى -، وَإِيجَابُ اللَّهِ - تَعَالَى - الصَّدَقَةَ الْمُضَافَةَ إِلَى الْمَالِ يَتَنَاوَلُ أَمْوَالَ الزَّكَاةِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: ١٠٣] الْآيَةَ، فَكَذَا إِيجَابُ الْعَبْدِ، فَيَتَصَدَّقُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ وَالسَّوَائِمِ وَالْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ الْعُشْرِيَّةِ وَالْأَرْضِ الْعُشْرِيَّةِ، خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ حَتَّى لَا تَجِبَ عَلَى الْكَافِرِ فَكَانَتْ فِي مَعْنَى الزَّكَاةِ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْوَالِ ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ أَمْوَالَ الزَّكَاةِ. وَقَالَ زُفَرُ: يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ مَالِهِ وَهُوَ الْقِيَاسُ عَمَلًا بِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَجَوَابُهُ مَا مَرَّ، وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِلْكِهِ فَهُوَ عَلَى الْجَمِيعِ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي الِاسْتِحْسَانِ ; لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ وَالْمِلْكِ سَوَاءٌ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ النَّسَفِيُّ عَنْهُمَا. قَالَ: وَأَبُو يُوسُفَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: لَفْظَةُ الْمِلْكِ أَعَمُّ عُرْفًا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ; لِأَنَّ الشَّرْعَ إِنَّمَا أَضَافَ الصَّدَقَةَ إِلَى الْمَالِ لَا إِلَى الْمِلْكِ وَذَلِكَ مُوجِبُ تَخْصِيصِ الْمَالِ فَبَقِيَ الْمِلْكُ عَلَى عُمُومِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سِوَى مَالِ الزَّكَاةِ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِالْكُلِّ بِالْإِجْمَاعِ.
(وَيُمْسِكُ مَا يُنْفِقُهُ حَتَّى يَكْتَسِبَ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ) ; لِأَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ احْتَاجَ أَنْ يَسْأَلَ أَوْ يَمُوتَ جُوعًا وَأَنَّهُ ضَرَرٌ فَاحِشٌ، فَيُمْسِكُ قَدْرَ حَاجَتِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ، وَلَمْ نُقَدِّرْهُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ النَّاسَ يَخْتَلِفُونَ فِي ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ فِي النَّفَقَاتِ فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُمْسِكُ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ فِي نَفَقَتِهِ إِلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَدَاءِ مِثْلِهِ، وَلَوْ قَالَ: دَارِي فِي الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا أَجْزَأَهُ، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ: كُلُّ مَا يَصِلُ إِلَيَّ مِنْ مَالِكَ فَعَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهِ فَوَهَبَهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ طَعَامِهِ لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ ; لِأَنَّ الْإِبَاحَةَ لَا يَمْلِكُهُ إِلَّا بِالْأَكْلِ، وَبَعْدَ الْأَكْلِ لَا يُمْكِنُ التَّصَدُّقُ بِهِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute