للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَإِنْ وَادَعَهُمْ ثُمَّ رَأَى الْقِتَالَ أَصْلَحَ نَبَذَ إِلَى مَلِكِهِمْ، وَإِنْ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ وَعَلِمَ مَلِكُهُمْ بِهَا قَاتَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يُوَادِعَهُمْ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ، وَمَا أَخَذُوهُ قَبْلَ مُحَاصَرَتِهِمْ فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ وَبَعْدَهَا كَالْغَنِيمَةِ، وَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِمْ مَالًا لِيُوَادِعُوهُ جَازَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ،

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

فَمِلْ إِلَيْهِمْ وَصَالِحْهُمْ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ، فَيَجُوزُ عِنْدَ وُجُودِ الْمَصْلَحَةِ دُونَ عَدَمِهَا، وَلِأَنَّ عَلَيْهِمْ حِفْظَ أَنْفُسِهِمْ بِالْمُوَادَعَةِ، أَلَا يَرَى «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَشْرَ سِنِينَ» ، وَلِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ إِذَا كَانَتْ مَصْلَحَةَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ جِهَادًا مَعْنًى، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الشَّرِّ وَقَدْ حَصَلَ، وَتَجُوزُ الْمُوَادَعَةُ أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ عَلَى مَا يَرَاهُ الْإِمَامُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، لِأَنَّ تَحْقِيقَ الْمَصْلَحَةِ وَالْخَيْرِ لَا يَتَوَقَّتُ بِمُدَّةٍ دُونَ مُدَّةٍ.

قَالَ: (فَإِنْ وَادَعَهُمْ، ثُمَّ رَأَى الْقِتَالَ أَصْلَحَ نَبَذَ إِلَى مَلِكِهِمْ) وَقَاتَلَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: ٥٨] ، «وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبَذَ الْمُوَادَعَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ» ، وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ

الْمَصْلَحَةُ

عَلَى مَا بَيَّنَّا، فَإِذَا تَبَدَّلَتْ يَصِيرُ النَّبْذُ جِهَادًا، وَتَرْكُهُ تَرْكَ الْجِهَادِ صُورَةً وَمَعْنًى، وَلَا بُدَّ مِنَ النَّبْذِ تَحَرُّزًا عَنِ الْغَدْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَيَكْتَفِي بِعِلْمِ الْمَلِكِ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَمْرِهِمْ وَيُعْلِمُهُمْ بِذَلِكَ، وَيَشْتَرِطُ مُدَّةً يُبَلِّغُ خَبَرَ النَّبْذِ إِلَى جَمَاعَتِهِمْ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ يُمْكِنُ الْمَلِكُ إِعْلَامُهُمْ جَازَ مُقَاتَلَتُهُمْ وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُمْ، لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ مَلِكِهِمْ فَلَا يَكُونُ غَدْرًا، وَلَوْ آمَنَهُمْ وَلَمْ يَنْزِلُوا مِنْ حَصْنِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِقِتَالِهِمْ بَعْدَ الْإِعْلَامِ، وَإِنْ نَزَلُوا إِلَى عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ عَلَى أَمَانِهِمْ حَتَّى يَعُودُوا إِلَى حِصْنِهِمْ لِأَنَّهُمْ نَزَلُوا بِسَبَبِ الْأَمَانِ، فَلَا يَزَالُونَ عَلَى حُكْمِهِ حَتَّى يَعُودُوا إِلَيْهِ.

قَالَ: (وَإِنْ بَدَءُوا بِخِيَانَةٍ وَعَلِمَ مَلِكُهُمْ بِهَا قَاتَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ نَبْذٍ) لِأَنَّهُمْ قَدْ نَقَضُوا الْعَهْدَ لِمَا كَانَ بِاخْتِيَارِ مَلِكِهِمْ؛ أَمَّا لَوْ دَخَلَ مِنْهُمْ جَمَاعَةٌ دَارَنَا وَقَطَعُوا الطَّرِيقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَلِكِ لَا يَكُونُ نَقْضًا فِي حَقِّ الْجَمِيعِ لِأَنَّهُ بِغَيْرِ إِذَنِ الْمَلِكِ، وَيَكُونُ نَقْضًا فِي حَقِّهِمْ خَاصَّةً فَيُقْتَلُونَ.

قَالَ: (وَيَجُوزُ أَنْ يُوَادِعُهُمْ بِمَالٍ وَبِغَيْرِهِ) إِذَا كَانَ فِي ذَلِكَ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَهُمْ حَاجَةٌ إِلَى الْمَالِ لِمَا مَرَّ.

(وَمَا أَخَذُوهُ قَبْلَ مُحَاصَرَتِهِمْ) بِأَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا (فَهُوَ كَالْجِزْيَةِ) لَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ مَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ حَصَلَ لَنَا بِغَيْرِ قِتَالٍ (وَ) مَا أَخَذُوهُ (بَعْدَهَا) أَيْ مُحَاصَرَتِهِمْ يُخَمَّسُ (كَالْغَنِيمَةِ) وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي لِأَنَّهُ حَصَلَ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ.

قَالَ: (وَإِنْ دَفْعَ إِلَيْهِمْ مَالًا لِيُوَادِعُوهُ جَازَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ) وَهُوَ خَوْفُ الْهَلَاكِ، لِأَنَّ دَفْعَ الْهَلَاكِ وَاجِبٌ بِأَيِّ طَرِيقٍ كَانَ، فَإِنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بِالْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَدُّوهُمْ فَأَخَذَ الْأَنْفُسَ وَالْأَمْوَالَ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اجْعَلْ مَالَكَ دُونَ نَفْسِكَ» وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ضَرُورَةٌ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إِلْحَاقِ الذِّلَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ وَإِعْطَاءِ الدَّنِيئَةِ:

<<  <  ج: ص:  >  >>