فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ أَدَّبَهُ الْإِمَامُ وَنَبَذَ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ ذِمِّيٍّ، وَلَا أَسِيرٍ، وَلَا تَاجِرٍ فِيهِمْ، وَلَا مَنْ أَسْلَمَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِيهِمْ، وَلَا أَمَانُ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَنِ الْقِتَالِ
ــ
[الاختيار لتعليل المختار]
مِنَ الْمُسْلِمِينَ قِتَالُهُمْ؛ وَشَرْطُ صِحَّةِ الْأَمَانِ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَمَّنُ مُمْتَنِعًا مُجَاهِدًا يَخَافُ مِنْهُ الْكُفَّارُ، لِأَنَّ الْأَمْنَ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْخَوْفِ، وَالْخَوْفُ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنَ الْمُمْتَنِعِ، وَالْوَاحِدُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ فِي الْأَمَانِ لِتَعَذُّرِ اجْتِمَاعِ الْكُلِّ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» أَيْ أَنَّ الْوَاحِدَ يَسْعَى بِذِمَّةِ جَمِيعِهِمْ. وَرُوِيَ: «أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّنَتْ زَوْجَهَا، فَأَجَازَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَانَهَا وَأَجَازَتْ أُمُّ هَانِئٍ رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَأَرَادَ عَلِيٌّ أَنْ يَقْتُلَهُمَا وَقَالَ لَهَا: أَتُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا تَقْتُلُهُمَا حَتَّى تَقْتُلَنِي دُونَهُمَا، ثُمَّ أَغْلَقَتْ دُونَهُ الْبَابَ وَجَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: مَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْتِ» ؛ فَعُلِمَ أَنَّ أَمَانَ الْوَاحِدِ جَائِزٌ؛ وَإِذَا جَازَ أَمَانَهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ التَّعَرُّضُ لَهُ بِقَتْلٍ وَلَا أَخْذِ مَالٍ كَمَا لَوْ آمَنَهُ الْإِمَامُ.
قَالَ: (فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ أَدَّبَهُ الْإِمَامُ) لِافْتِيَاتِهِ عَلَى رَأْيِهِ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَفُوتُ بِالتَّأْخِيرِ فَيُعْذَرُ.
قَالَ: (وَنَبَذَ إِلَيْهِمْ) لِأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا أَمَّنَهُمْ أَوْ صَالَحَهُمْ ثُمَّ رَأَى النَّبْذَ أَصْلَحَ نَبَذَ إِلَيْهِمْ فَهَذَا أَوْلَى، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إِذَا جَاءُوهُ بِالْأَمَانِ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَوْ إِلَى إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ أَجَابُوهُ إِلَى الْإِسْلَامَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ، وَإِنْ أَبَوْا وَأَجَابُوا إِلَى الْجِزْيَةِ قُبِلَتْ مِنْهُمْ وَصَارُوا ذِمَّةً، وَإِنْ أَبَوْا رَدَّهُمْ إِلَى مَأْمَنِهِمْ وَقَاتَلَهُمْ، قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة: ٦] وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَرُّضُ لَهُمْ مَعَ الْأَمَانِ، وَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ جِزْيَةٍ فَيَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ أَوِ الْجِزْيَةَ الَّتِي يُسْتَحَقُّ مَعَهَا الْأَمَانُ، فَإِنْ أَبَوْا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُمْ فَيَرُدَّهُمْ ثُمَّ يُقَاتِلُوهُمْ كَمَا لَوْ خَرَجُوا إِلَيْنَا بِأَمَانٍ.
قَالَ: (وَلَا يَصِحُّ أَمَانُ ذِمِّيٍّ وَلَا أَسِيرٍ، وَلَا تَاجِرٍ فِيهِمْ، وَلَا مَنْ أَسْلَمَ عِنْدَهُمْ وَهُوَ فِيهِمْ) لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُتَّهَمٌ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالْبَاقُونَ مَقْهُورُونَ عِنْدَهُمْ فَلَا يَخَافُونَهُمْ فَلَا يَكُونُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَيَانِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلِأَنَّهُ لَوِ انْفَتَحَ هَذَا الْبَابُ لَانْسَدَّ بَابُ الْفَتْحِ، لِأَنَّهُمْ كُلَّمَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ لَا يَخْلُونَ عَنْ أَسِيرٍ أَوْ تَاجِرٍ فَيَتَخَلَّصُونَ بِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ ظَاهِرٌ.
قَالَ: (وَلَا أَمَانُ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَنِ الْقِتَالِ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ: يَصِحُّ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مُضْطَرِبٌ. لِمُحَمَّدٍ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» ، وَقِيَاسًا عَلَى الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ، وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُمْ آمِنُونَ مِنْهُ، فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ كَالْأَسِيرِ وَالتَّاجِرِ، وَلِأَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَمْلِكِ الْعُقُودَ لِمَا فِيهَا مِنْ إِسْقَاطِ حَقِّ الْمَوْلَى، فَلَا يَمْلِكُ مَا فِيهِ إِسْقَاطُ حَقِّ الْمَوْلَى وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْأَمَانُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ، لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُ فِي الْقِتَالِ فَقَدْ جُعِلَ إِلَيْهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute