للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هم الذين اعتقدوا أنه هو الذي كان على الحق فنصروه على من عادوه وتبرءوا منه وحاربوه من الخوارج، وكذا معاوية وأتباعه خلافًا لابن حجر الهيتمي وأمثاله الذي يخرجون هؤلاء منهم بحجة أنهم كانوا مجتهدين متأولين فلهم أجر واحد، ولعلي وأتباعه أجران؛ فإن متبع الحق مستقل الفكر فيه بلا هوى ولا تعصب لمذهب يجزم بأن معاوية نفسه كان باغيًا خارجًا على الإمام الحق كالخوارج، وأنه طالب ملك (١) .

ويؤيد ذلك إكراه الناس على جعل هذا الملك لولده يزيد المشتهر بالفسق (٢) ، وأن بعض الخوارج كانوا متأولين كبعض أصحاب معاوية الذين اعتقدوا أنه كان على حق في مطالبته بدم عثمان.

فمجموع كل من الفريقين بغاة خارجون على إمامهم الحق، وأفرادهم يتفاوتون في النية والقصد، كتفاوتهم في العلم والجهل.

وحكمه كرم الله تعالى وجهه عليهم في جملتهم هو الحق، وهو أن بغيهم لا يُخْرِجهم من الإسلام، وإن كلمته عليه السلام: (إخواننا بغوا علينا) (٣) لكلمة لو وزنت بالقناطير المقنطرة من اللؤلؤ والمرجان، لكانت ذات الرجحان في هذا الميزان.


(١) إن مستقل الفكر بلا هوى ولا تعصب ليس هو من يجزم بما أشار إليه الشيخ المؤلف غفر الله له، بل هو من ينظر في كتب التاريخ آخذاً بما صح إسناده منها؛ فإن تاريخ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم وما وقع فيه من أحداث هو جزء من ديننا، لا يصح بحال أن نسوي بينه وبين تاريخ آخر، أو أن نتساهل في أخذه وروايته؛ لأن أي إجحاف أو تمييع في حق هذا التاريخ وتوثيقه سيعود حتماً على الدين، وخاصة إذا كانت تلك الأخبار تتناول المواقف الحاسمة، أو بعض الفتن، أو بعض ما يسيء إلى مقام ذلك الجيل الفاضل، أو كان فيها شيء من المخالفة لأصول الشريعة العامة، أو تخللها بعض الشوائب التي ترفضها الفطرة السليمة، فحينئذ لا بد من النظر في أسانيدها نظراً دقيقاً، ومحاكمتها محاكمة عادلة.
وقد وضع الله تبارك وتعالى لنا قاعدة ذهبية في ذلك، قَلَّما يتنبه لها الكثيرون، ألا وهي قوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فهذا إن وجب في حق آحاد المسلمين، فكيف بالصحابة رضي الله عنهم؟!

وقد قال أبو مسلم الخولاني وجماعة لمعاوية رضي الله عنه: أنت تنازع علياً! هل أنت مثله؟! فقال: ((لا والله إني لأعلم أن علياً أفضل مني، وأحق بالأمر، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوماً، وأنا ابن عمه، وإنما أطلب بدمه، فأتوا علياً فقولوا له: فليدفع إلي قتلة عثمان وأسلم له، فأتوا علياً فكلموه بذلك، فلم يدفعهم إليه)) . "تاريخ الإسلام للذهبي (عهد الخلفاء ص ٥٤٠) بسند صحيح "
وعلى كل حال فإن المصنف ذكر عذا الرأي في مجلة المنار وقد قال في نهاية فتوى له حول الموضوع: ((وإنني على اعتقادي هذا لا أرى للمسلمين خيرًا في الطعن في الأشخاص والنبز بالألقاب واللعن والسباب، وإنما عليهم أن يبحثوا عن الحقائق ليعلموا من أين جاءهم البلاء فيسعوا في تلافيه مع الاتحاد والاعتصام والاقتداء بالسلف الصالح في حسن الأدب لا سيما مع الصحابة الكرام)) . مجلة المنار (٩ / ٢١٣)
(٢) روى أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف المدائني، عن صخر بن جويرية، عن نافع، عن عبد الله بن مطيع وأصحابه أنهم قالوا لمحمد ابن الحنفية وهو ابن علي بن أبي طالب: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب.
فقال لهم: ((ما رأيت منه ما تذكرون، وقد حضرته وأقمت عنده فرأيته مواظبا على الصلاة متحريا للخير يسأل عن الفقه ملازما للسنة)) .
قالوا: فإن ذلك كان منه تصنعا لك.
فقال: ((وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إلي الخشوع؟ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك إنكم لشركاؤه، وإن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا)) .
قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم يكن رأيناه.
فقال لهم: ((أبى الله ذلك على أهل الشهادة، فقال {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} ولست من أمركم في شيء)) . انظر: تاريخ الإسلام (حوادث ٦١-٨٠) ، وسير النبلاء ٤/٤٠، أنساب الأشراف ٣/٢٧٨-٢٧٩، البداية والنهاية ٩/٢٣٦.
فظاهر هذه الرواية الثابتة عن ابن الحنفية رحمه الله أن يزيد لم يكن فيه شيء من ذلك الذي ادَّعى المؤلف وغيره أنه مشتهر عنه، دون أن يُثبتوه بسند صحيح، والعلم عند الله تبارك وتعالى، وهذا لا يهمنا فهو بينه وبين ربه سبحانه.
(٣) انظر: مصنف ابن أبي شيبة (١٥/٢٥٦- ٢٥٧، ٣٣٢) .

<<  <  ج: ص:  >  >>