ويكفي في هذا مطالعة الكتب التي تعتني بنقل أقوال السلف والتي يضيق المقام عن مجرد استقصاء أسمائها فضلاً عن الإشارة إلى متونها في هذا الباب، وانظر حول تأصيل الموضوع: الأشاعرة في ميزان أهل السنة للشيخ فيصل قزار الجاسم ص ١٦١ وما يليها، مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات للشيخ د. أحمد القاضي ص ٩٦ وما يليها. (٢) بل إنهم ينسبون إلى السلف أنهم يفوضون معناها لكون حقيقة معنى الصفة غير مرادة، ونسبة هذا القول إلى السلف باطلة؛ فإن صراع السلف مع الجهمية والمعتزلة لم يكن إلا على إثبات حقائق الصفات، إذ لو كان السلف متفقين على كون الحقيقة غير مرادة فعلى ماذا يكون الصراع والنزاع إذن بينهم وبين الجهمية والمعتزلة إذن؟! (٣) وهذا القول متناقض مردود من عدة أوجه من أهمها: أولاً: سبب تعليلهم لكون طريقة السلف أنها أسلم والخلف أعلم وأحكم تعليل خاطئ؛ فإن هؤلاء إنما أُتوا من حيث ظنوا أن طريق السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير تدبر معانيها وفقهها وعقلها، أو أنهم تأولوها تأويلاً إجمالياً باعتقاد أن ظاهر النص غير مراد إلا أنهم أمسكوا عن تحديده بالكف عن التأويل! أو أن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات! وهذا تعليل خاطئ؛ كما أُشير إليه فيما سبق وفيما سيأتي أيضاً. ثانياً: أن وصفهم طريقة الخلف بأنها (أعلم وأحكم) يناقض قولهم: (إن طريقة السلف أسلم) فإن كون طريقة السلف أسلم من لوازم كونها أعلم وأحكم، إذ لا سلامة إلا بالعلم والحكمة، العلم بأسباب السلامة، والحكمة في سلوك تلك الأسباب وبهذا يتبين أن طريقة السلف أسلم، وأعلم، وأحكم. انظر: تلخيص الفتوى الحموية (ضمن مجموع وفتاوى رسائل الشيخ محمد العثيمين رحمه الله ٤ / ١١) . ثالثاً: أنهم - أعني المتكلمين - ومع كونهم متفقين فيما بينهم على أن طريق السلف أسلم، ولكن زعموا أن طريق الخلف أعلم، فلم يُعهد في طريقتهم إلا الشك والاضطراب والتعارض، فتعارضت أنظارهم العقلية وعارض بعضهم بعضًا في الأدلة النقلية، وكان غاية ما ظفروا به من هذه (الأعلمية) بطريق الخلف أن تمنى محققوهم وأذكياؤهم كالرازي وغيره في آخر أمرهم دينَ العجائز، قال الشوكاني: ((فإن هذا ينادي بأعلى صوت يدل بأوضح دلالة، على أن هذه الأعلمية التي طلبوها الجهلُ خير منها بكثير. فما ظنك بعلم يقر صاحبه على نفسه أن الجهل خير منه، ويتمنى عند البلوغ إلى غايته والوصول إلى نهايته، أن يكون جاهلاً به عاطلاً عنه؟)) . اهـ (٤) يقول المؤلف رحمه الله في مجلة المنار: ((وأما علم الكلام فقد حدث في الملة على عهد الأئمة، فحرَّموه وذمَّوه)) ، وقد نقل أقوالهم في ذلك في المسألة (٥٢) من الدرس السابع عشر من الأمالي الدينية المنشور في الجزء الأخير من مجلد المنار الثالث ص ٨٤٠ - ٨٤٥، وقال في آخره عن علم الكلام: إنه ((يطلب لضرورة إقناع الخصوم وردّ شبه المنكرين , والضرورة تقدر بقدرها وتختلف باختلاف الزمان وأنواع الشبهات)) . أقول: إن التعبير بـ (علم الكلام) قد صار فيه إجمال أيضاً، قال ابن حمدان في المفتي والمستفتي: ((وعلم الكلام المذموم هو أصول الدين إذا تكلم فيه بالمعقول المحض، أو المخالف للمنقول الصريح الصحيح، فإن تكلم فيه بالنقل فقط، أو بالنقل والعقل الموافق له فهو أصول الدين، وطريقة أهل السنة)) . فلم يذم السلف والأئمة الكلام لمجرد ما فيه من الاصطلاحات المولدة كلفظ الجوهر والعرض والجسم وغير ذلك، بل لأن المعاني التي يعبرون عنها بهذه العبارات فيها من الباطل المذموم في الأدلة والأحكام ما يجب النهي عنه لاشتمال هذه الألفاظ على معان مجملة في النفي والإثبات.. فإذا عرفت المعاني التي يقصدونها بأمثال هذه العبارات وزنت بالكتاب والسنة، بحيث يثبت الحق الذي أثبته الكتاب والسنة، وينفى الباطل الذي نفاه الكتاب. انظر: مجموع الفتاوى ٣ / ٣٠٧.