وأتتبعها من مَظانّها، وأحاول ما استطعت أن أظفرَ بالدليل الأقوى لأنتهي إليه وآخذ به، وأشجع مَن حَوْلِي مِن الطلبة أن يفعلوا مِثلي.
وقد كان يدفعني ذلك إلى البحثِ عن كُتُبِ الحديثِ للاطلاعِ عليها، والاحتجاج بما صح من الحديث فيها والتفقه فيها، وبدأ هذا التوجه يزدادُ يومًا بَعْدَ يومٍ حَتَّى أصبحتُ أُعرَفُ بَيْنَ الطلبة بذلك، وكانوا لِعَراقتهم في التقليد يتقدمون بالشكوى إلى أُستاذي ويقولون له: إنه يُخالِفُ المَذْهَبَ في عدَّةِ مسائل، وكان اللومُ والعتْب مِن أستاذي يُوجَّهُ إليَّ بأسلوبٍ قاسٍ وتهكُّمٍ بالغٍ، وتحذيرٍ شديد، وإخواني الطلبة، كانوا يتَّهِمُونني بالتَّهورِ، والخروج عن جادة الصواب، وكم عانَيتُ من ذلك، ولحقني من الأذى ما اللهُ بهِ عليم، ولكنني - وللهِ الحمد - لم أُبالِ بِكُلِّ ذلك، ليقيني بأنَّ المنهجَ الذي انتهيتُ إليه هو المنهجُ الذي كان عليه السَّلفُ الصالحُ مِنْ هذه الأُمَّةِ - ومنهم الأئمةُ الأربعةُ - المشهودِ لها بالخيريَّة على لِسانِ خيرِ البرية.
وقد كنتُ في هذهِ الفترة لا أستطيع أن أتبيّن صحيحَ الحديثِ مِن ضعيفه بنفسي، وإنما كُنْتُ أرْجِعُ إلى الحفاظِ الأثباتِ مِن أهلِ العِلْمِ المتخصّصين في الحديث، فأنقلُ عنهم، وأعْتَمِدُ عليهم، بالرغم مِنْ أنني درستُ كُتُبَ المصطلح على الشيوخ، ووعَيتُ ما فيها، إلا أنني لم أتأهَّلْ بعدُ إلى الاستفادةِ منه، ولكن الله سبحانه إذا أراد شيئًا هيأ أسبابَه، فقد أتاح لي أن أنْتَقِلَ مِن هذا العلم النظري إلى العلم التطبيقي، وبدأت أُمارِسُ ذلك، وكان مِن فضل الله وتوفيقه أنني قُمْتُ بخدمةِ كُتُبِ السُّنة النبوية تحقيقًا وضبطًا، وتخريجًا وشرحًا، وأبَنْتُ عن درجةِ كُلِّ حديث من الأحاديث التي فيها مِن حيثُ الصحةُ أو الضعفُ في مدى أربعينَ سنة وإلى ما شاء الله، وقد وفِّقتُ في ذلك أيَّما توفيقٍ، وأعدلُ شاهد على ذلك هو المجلداتُ الضخمة التي تزيد على المئةِ والخمسينَ مجلدًا في هذا العلم، وهي متداولةٌ بين طلبة العلم والأساتذة، ينتفعون بها ويعتمدون