على غيرِه من بابِ تقديمِ الأَوْلَى، فلا إشكالَ في ذلكَ، لأنَّ ذلكَ التَّقديم ليسَ فيه إلغاءٌ للأقوالِ الأخرى المحتملَةِ.
والمقصودُ هنا أنْ يَقْتَصِرَ على معنًى ويُلْغِيَ غيرَهُ منَ الأقوالِ المحتملةِ إلغاءً تامّاً، وهذا المنهجُ مِمَّا يتميَّزُ به أهلُ البِدعِ، بلْ إنَّهم ـ أحياناً ـ لا يذكرونَ قولَ السَّلفِ، وإنْ ذكروه لم يُحْسنِوا عَرْضَهُ؛ لجهلِهِم بأقوالِ السَّلفِ ومعرفةِ معانيها.
ومنَ الأمثلةِ التي وقعَ فيها قَصْرُ اللَّفظِ على أحد محتملاتِه، وإبطالُ غيرِهِ، ما وقعَ في تفسيرِ العِلْمِ في قولِه تعالى:{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}[البقرة: ٢٥٥]، فقولُه:{مِنْ عِلْمِهِ} يحتملُ معنيينِ:
الأوَّلُ: لا يحيطونَ بشيءٍ من معلوماتِهِ.
الثاني: لا يحيطونَ بشيءٍ من عِلْمِ ذاتِهِ وصفاتِهِ (١).
وقد قَصَرَ المبتدعةُ معنى هذا اللَّفظِ على الأَوَّلِ دونَ الثَّاني، إمَّا إنكاراً لِصفَةِ العلمِ الإلهيِّ، وإمَّا إنكاراً لتَبَعُض عِلْمِ اللهِ تعالى.
قالَ القاضي عبدُ الجبارِ (ت:٤١٥): «فإنْ سألَ المُخالِفُ، فقالَ: إنَّ هذه الآية تدلُ على أنَّه تعالى عَلِمَ بِعِلْمٍ؛ لأنَّه قال:{وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ}.
(١) ينظر: الصواعق المرسلة (٤:١٣٧٢)، وتفسير ابن كثير (١:٦٧٩ - ٦٨٠)، وتيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للسعدي (١:٣١٥)، وتفسير آية الكرسي، لمحمد ابن عثيمين (ص:١٧).